الحلقة الثالثة من أيام اسطمبول..في خزانة الأسرار/ أحمدو ولد الوديعة

 أحمدو ولد الوديعةفي محيط  مسجد سلطان أحمد الذى يعتبر واحدا من أروع المساجد فى العالم يوجد المتحف الإسلامي، أو خزانة الأسرار  وهو متحف تشعر وأنت تدلف إليه أنط قطعت تذكرة سفر في الزمن الغابر فصفحات التاريخ مفتوحة بين يديك  وما عليك إلا أن تقوم بجولة ممتعة  بين ربوعها..  وتحدد من أين تكون البداية..

ولن تكون إلا من ركن الأمانات المقدسة فهناك صفحات تاريخنا الإسلامي ابتداء من لحظات الرسالة الأولى لغاية سقوط الخلافة العثمانية ستجد أمامك شعرات من شعر الحبيب صلى الله عليه وسلم إضافة  إلى بردته وسيفه وأثر من قدمه الطاهر.. وفي نفس الخانة تجد سيوف الصديق والفاروق وذي النورين وعلى أبن أبي طالب إلى جانب عشرات القطع الأثرية النادرة  من مراحل مختلفة من تاريخنا الإسلامي وأخرى من التاريخ الإنساني الممتد.

  حظي جناح التاريخ الإسلامي بالقسط الأكبر من وقتنا في المتحف ، وعندما كنا نريد الخروج مررنا بأجنحة أخرى تعج بالآثار الرومانية والبيزنطية، تؤكد هي الأخرى ذات الرسالة التي كانت أول ما تستقبلك به اسطنبول وهي أنك في مدينة  مثلت وتمثل ملتقى الحضارات الإنسانية.

 الطبيعة العالمية  لمدينة اسطنبول بدت جلية ونحن نخرج من المتحف إلى بهو كنيسة " أيا صوفيا ".. والدليل يتقدمنا متحدثا عن تاريخ هذه الكنيسة العريقة وما يحيط بها من معالم أثرية مثل المسلة المصرية التي يعود تاريخ تأسيسها إلى آلاف النسن وميدان  سباق الخيول وهو من أقدم ميادين السباق التى عرفتها البشرية، كان الميدان والمسلة المصرية ومدخل أيا صوفيا تعج بجموع بشرية تختلط فيها الصفرة الآسيوية بالسمرة الافريقية بالمظاهر الغربية والملامح العربية، ومع كل جمع دليل تركي يجتهد فى تقريب  تاريخ المجمع الأثري لجموع السياح..

 عندما ترسل طرفك بين الجموع   المنتشرة بين آيا صوفيا ومسجد سلطان أحمد تغشاك حالة من الرهبة، وتقتحم عليك  مشاعر غريبة فأنت أمام مشهد مصغر للبشرية منذ نشأتها الأولى و أنت أمام تضاريس جغرافية ودينية تحكي قصة اتصال الحضارات وانفصالها، لكن قوة ضغط الجموع وبهاء المكان وروعته لاتتركك تعيش مع تلك المشاعر طويلا ...

 كان دليلنا التركي شابا وسيما من منطقة أنطاكية على الحدود مع سوريا ، يتحدث العربية بنكهة شامية وقد كان حريصا على أن يستمع الجميع لشروحه وخاصة عندما يقدم قصة لاتخلو من طرافة مثل قصة " المئاذن الست لمسجد السلطان أحمد حيث قال إن السلطان قال للمهندس سنان أن يجعل للمسجد مئذنة من الذهب وكلمة الذهب بالتركية  قريبة في نطقها من الرقم 6 فظن المعماري  سنان أن السلطان أرادا أن تكون المئاذن ستا فشيدها على ذلك الأساس ممشوقة شاهقة وشاهدة على عزة الأمة التي شيدتها، وعندما جاء السلطان بعد فترة يتأمل البناء فوجي بالمئاذن  الست فسأل المهندس أين المأذنة الذهبية فأجابه أي مأذنة.. أمرتني ببناء ست مئاذن وها قد شيدتها..  فهم الأمير أن مخارج الخروف وربما مداخل الآذان قد  حولت مأذنته الذهبية إلى ست مئاذن ليس ذهبية ولكنها على أية حال  آية من آيات الجمال والشموخ والكبرياء.

 عندما دخلنا مسجد السلطان أحمد تذكرت وصية قالها لي مرة الأستاذ محمد غلام ولد الحاج الشيخ  وقد استغربتها حينئذ، قال لي وهو من أساتذة الذوق والجمال : إن قدر لك أن تزور سلطان أحمد يوما فاحرص على أن تستلقي على ظهرك داخله حتى تستمتع  بمشاهدة الأشكال الهندسية الرائعة التى تحكم تجاور قبب المسجد وسواريه.. طبقت الوصية على الفور وكان من حسن حظي أن غلام كان غير بعيد مني، وقد شرع يشرح لي بلغته الأدبية الأصيلة رؤيته لقصة تجاور تلك القباب والسواري وتصوره للحوار الذى يجري بينها، والأسرار الكامنة وراء تموجاتها وتشكلاتها الجمالية المبهرة.. لكن وجود عدد من  الزوار بجانبنا وهم يستغربون طريقتنا فى الاستلقاء على أظهرنا سائحين محلقين فى التحفة الجمالية الأحمدية جعلنا نقطع تلك اللحظة الغامرة من السعادة بتملي جمال قبب وسواري وسرج وقناديل سلطان أحمد.

  ليس السواح هم وحدهم من يزور المتحف الإسلامي الزاخر بمكنونات الأثار الإسلامية بل إن أكبر عدد من زوار المتاحف هم من  تلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية والتركية الذين يصطحبهم معلموهم إلى المتحف كل يوم ليزرعوا فيهم منذ لحظات تشكل الوعي الأولى الاعتزاز بهويتهم وانتمائهم الإسلامي.

 كان من أكثر ما يلفت الانتباه بين الناشئة التركية الزائرة للمتحف الإسلامي أنها تبدو متلهفة إلى العودة إلى سياقها الإسلامي فنظرات الأطفال  مركزة على الزوار الذين توحي ملامحهم بأنهم من جنسيات إسلامية  وعندما تلقى التحية عليهم تغمرهم سعادة غامرة ويردونها بأحسن منها ويمدون أيديهم مصافحين مهللين ومكبرين.. كنت من بين من أثر فيهم كثيرا مشهد الناشئة التركية المقبلة على تاريخها والمتلهفة لوصل ما قطعته عقود الآتاتوركية مع الجوار  الإسلامي فكنت حريصا أن أمد يدي مصافحا لمجموعات الأشبال التي جمعتنا وإياها الطريق إلى خزانة الأسرار ولم يكن يحول بيني وبين ذلك إلا الخشية من أن تؤثر تلك المصافحة على  نظام السير فى الممرات المزدحمة الموصلة إلى المتحف الإسلامي.

 خرجنا من المتحف فى اتجاه مضيق الباسفور وهو مضيق من أجمل مضايق العالم وأهمها وأخطرها يربط بين اسطمبول الأوربية واسطمبول الآسيوية وعلى شواطئه الجميلة تطل المئاذن التركية والقصور العثمانية التي هجرت  ردحا طويلا من الزمن وتحولت إلى مزارات سياحية قبل أن تدب فيها الحياة من جديد مع  " انعطافة تركيا شرقا" وتسلم العثمانيين الجدد أمر الحكم فى البلد منذ أكثر من عشر سنوات، فقد اتخذ اردوغان لنفسه يوما من أيام الأسبوع يمارس فيه مهامه الإدارية من واحد من القصور العثمانية القديمة المطلة على مضيق الباسفور، وتلك إشارة حضارية بليغة تقول بلغة لاتحتاج إلى ترجمان إن الطريق بين ماضي تركيا وحاضرها  باتت سالكة وتجاوزت المضايق الحرجة التي دخلت فيها خلال عقود الاستلاب والتتريك.. لقد استلم أحفاد عبدالحميد القادمين من عمق الأناضول مفاتيح القصور العثمانية وخزانة الأسرار والأمانات المقدسة.. وهم يعرفون جيدا وجتهم وإنهم لواصلون..

 لكن دعونا قبل أن نتبعهم نعود إلى القصة من البداية.. فى الحلقة القادمة تنظرنا رحلة مع  تلاميذ أربكان وحراس الأقصى إلى فتح القسطنطينية

10. أبريل 2012 - 21:15

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا