بعدما انتظر الموريتانيون ساعات طوالا يوم السادس من أغسطس لمعرفة الأسباب التي جعلت باكورة جنرالاتهم يجهض تجربتهم الديمقراطية الوليدة خرج عليهم البيان " رقم واحد " بالخبر اليقين؛ الانقلاب تم لأن القائد العام للقوات المسلحة مارس نفس الصلاحية التي خولته ترقية الجنرالات فقرر إقالتهم، أما برنامج الانقلاب ورؤيته ومشروعه فهو بالأساس أن قرار الرئيس بتنحية من رقاهم قبل
أسابيع" لاغ"، وما سوى ذلك من أمور بما فيه تشكلة مجلس الحكم ومدة حكمه وطريقته فتلك أمور متروكة لقابل الساعات و الأيام. لكن الذى لم يعرفه الموريتانيون في ذلك اليوم الحزين هو أن تلك الحروف الثلاث التي تضمنها البيان الأول هي في واقع الأمر كل برنامج الزمن الجديد الذى اجتهد " منظروه المدنيون" قبل الانقلاب وبعده لاضفاء صفات كثيرة عليه تبدأ من الأعماق وتطرق باب الجدة وتطوف بباب الفقراء ولاتنسى التمسح بعتبات العمل الإسلامي.
لقد اثبتت سنوات الحكم الحالي العجاف أن الفعل الأساسي" المتيسر" هو فعل الإلغاء ومشتقاته مثل التجريد والتأجيل وسحب الترخيص والتوقيف أما الأفعال الأخرى فهي ممنوعة من الصرف رغما عنها ورغما عن كل قواعد النحو والصرف والبلاغة والبيان.
التسفيه منطلقا ومنتهى
كان مفهوما أن يبدأ الإنقلابيون بتبخيس كل من سبقهم وكل ما سبقهم فتلك نفسية عسكرية يحتاجها المنقلبون على الحكم المدني لتسويغ فعلتهم الشنيعة، وهي نفسية عرفها الموريتانيون على مدى العقود الماضية ابتداء من أول انقلاب على المختار ولد داداه إلى آخر انقلاب على سيد ولد الشيخ عبدالله، لكن ما هو غير طبيعي أن يستمر هذا التبخيس والتفسيق والتبكيت طيلة ثلاث سنوات لم ينتبه هؤلاء أنه كان بإمكانهم أن يفعلوا فيها أشياء كثيرة لو كانوا يملكون الرغبة والرؤية والقدرة على فعل ذلك.
ثلاث سنوات ظل هؤلاء الإلغائيون يكررون فيها نفس الخطاب الشتائمي التكفيري للسابقين مع أنهم هم السابقون فهم كانوا على مدى عشرين سنة في قلب نظام الحكم، وفي دائرة المسؤولية بكل مستوياتها الاقتصادية والأمنية والسياسية... لكن هذه السنوات الثلاث كانت مهمة وضرورية ربما ليفهم من غرته ذات يوم الخطابات الديماغوجية لحكام الإلغاء هؤلاء أنهم قاصرون عن حكم البلد ومنافقون فيما يعلنون من شعارات يعارضها ماضيهم وحاضرهم.. دعونا نرى نماذج من " حكامة الإلغاء" كما شهدناها خلال السنوات الثلاث الماضية.
الإلغاء في كل اتجاه
- نواكشوط عاصمة الثقافة الإسلامية 2011هذا المكسب الثقافي الكبير الذى حققه حكم سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله وكان سيتيح الفرصة لموريتانيا لتقدم للعالم أهم ما تملك وهو رصيدها الثقافي والمعرفي وتاريخها المشرق فى العلم والثقافة والمعرفة.. تم إلغاء التظاهرة الثقافية دون تقديم أي مسوغات مقنعة وإن كان فى الخلفية على الراجح أمران
- أنه لاعائد ربحي واضح يتوقع من خلالها، والعائد المادي أو المحصل الضريبي عاملان أساسيان فى اتخاذ القرارات خلال " الحكامة الجديدة"
- وأن الموافقة عليه تمت في زمن سيدي ولد الشيخ عبدالله وبجهد مباشر من الخليل النحوي وهما رجلان يمثلان فى ذهنية حكام الإلغاء رأس حربة محور الشر التى لابد من القضاء على كل ما يرمز لها .
- إلغاء انتخابات التجديد الجزئي لملجس الشيوخ قبل ساعات من بداية الحملة الإنتخابية، دون أي تشاور حتى مع الأغلبية الحاكمة التى كان ممثلوها قد انطلقوا إلى جهات البلد الأربع لإعلان انطلاق الحملة قبل أن يصلهم الخبر من وسائل الإعلام مع ساعات المساء الأولى.
ومع أن الرواية الرسمية التي قدمت للقوى السياسية بعد ثلاثة أيام من صدور قرار الإلغاء كانت تتحدث عن بادرة حسن نية تجاه معارضة سبق لها أن طالبت بالتأجيل لكن الحقيقة هي أن معطيات وتقارير وصلت من يملك القرار حول الفرص الضئيلة لمرشحي الحزب الحاكم بالفوز كانت وراء التأجيل، فلم يكن بإمكان رئيس الفقراء تقبل هزائم ماحقة كانت تنتظره في كوبني وتامشكط وتجكجة وامبود ونواكشوط
- إلغاء الرؤية الوطنية الحوارية لحل مشكل المبعدين وملف الإرث الإنساني، واستعاضتها برؤية مرتجلة قائمة على فكرة شراء الذمم، والقيام بصلوات استعراضية وخطوات مجتزئة، وهو مسار شديد الوفاء فى جوهره لنهج العقيد ولد الطايع وإن اختلف معه فى الشكل وطرائق الإخراج.
كانت موريتانيا عشية الانقلاب على الديمقراطية على وشك أن تطوي صفحة حزينة من تاريخها بطريقة حكيمة ومنصفة بدأت مع خطاب الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله حول الأحداث العرقية الأليمة واستمرت مع الأيام الوطنية للتشاور حول قضية المبعدين تلك الأيام التى شارك فيها مئات الموريتانيين من مختلف التوجهات ووفرت منبرا وطنيا صريحا ناقش فيه الموريتانيون على مدى أيام قضيتهم الوطنية بروح صريحة ومسؤولة فتحت الباب أمام مسار عودة المبعدين وأمام نقاش صريح آخر حول قضية الإرث الإنساني، لكن هذا المسار " ألغي" من ضمن ما ألغي صبيحة السادس من أغسطس وبدأ مسار جديد قائم على فكرة فى غاية البساطة – حتى لا أقول السذاجة – وهي أن الأمر كله أمر أشخاص محدودين يكفى أن نوفر لكل منهم مبلغا ماليا أو مكانة معنوية ونصحب ذلك باحتفالات كرنفالية وصلوات وفتاوى وينتهي الأمر.
إن ما حصل من أحداث مؤلمة في سنوات الجمر الطائعية لايمكن حله إلا في سياق وطني وضمن حوار صريح تسلط فيه الأضواء على ما حصل وتعرف فيه الحقيقة كاملة عن تلك الجرائم، ليس من أجل نبش الماضي ولكن من أجل تأمين المستقبل، فلايمكن أن نبني وطنا موريتانيا واحدا وفينا مئات الأسر التى قتل أبناؤها في ظروف يكتنفها الغموض قبل أكثر من عشرين سنة وما زلنا نحرمها حتى من حقها فى أن تعرف ما الذى جرى وأن يتم الحديث عن ذلك علنا وفى محفل وطني وهي جاهزة بعد ذلك – على الراجح - لأن تعفو وتصفح، وقد أثبتت الأيام الوطنية للتشاور حول المبعدين أن العفو والصفح ممكن عندما يتم الارتقاء بالموضوع إلى بعده الوطني وعندما يفك الحصار عن الحقيقة ويشعر الضحايا أن هناك أخيرا من يعترف بما وقع عليهم ويمد لهم يد التسامح والتغافر.
- إلغاء الرؤية الوطنية الجرئية في مجال محاربة الرق، تلك الرؤية التي انطلقت مع صدور قانون مجرم للظاهرة صدق عليه البرلمانيون بإجماع، ومع أن " مقاومة" تجريم الرق انطلقت فى الواقع قبل الانقلاب لكنها نالت حظها من الإلغاء مع بيان" الإلغاء الأول" فتعطلت حملات التحسيس بالقانون وتعطل من باب أولى تطبيقه قبل أن تضطر السلطات أخيرا إلى تطبيق جزئي ومحدود له تحت ضغط الإضراب عن الطعام الذى نفذه ناشطون حقوقيون قبل أشهر.
تجلت سياسة الإلغاء في موضوع الرق مرة أخرى عندما شرعت الحكومة فى البحث عن أطر قانونية جديدة لتكون المؤطر للمعالجة الرسمية للملف فعقيدة الإلغاء لاتقبل أن يكون مرجع أي سياسة تطبق يعود إلى ما قبل السادس من أغسطس ذلك أن منطلقها الأساس كما قالها صراحة أحد منظري المرحلة أن موريتانيا عاشت ثمانية وأربعين سنة من التيه وسنتين من " التغيير البناء" حققت فيهما ما لم تحققه على مدار الثمان والأربعين سنة " الملغية".
الحبل على الجرار
لم يسلم من بلدوزر الالغاء أي من مجالات الحياة سياسيا ولولا الخوف من الإطالة لتوقفنا بالتفصيل مع أمثلة أخرى عديدة منها:
- إلغاء المقاربة العلمية لحل مشكل الكزرات وإبدالها بمسار شعبوي هازل.
- إلغاء برنامج التدخل الخاص لمواجهة الأزمة الغذائية والاستعاضة عنه ببرنامج " مخوصص" لصالح دائرة محدودة من المقربين.
- إلغاء برنامج بطاقة التعريف الوطنية وترك الموضوع بين يدي الحلقة الأكثر ضيقا في المحيط الموالي لتجرب فيه ما شاءت من نظريات، وتؤكد كل المؤشرات على أن المسار الغامض الذى تدار به الحالة المدنية اليوم يقود موريتانيا إلى أزمة " بدون" كبيرة سيكون علينا أن نضيفها قريبا إلى أزماتنا الكثيرة وأماكن وجعنا المتعفنة
- تدمير أقدم الأحياء فى العاصمة نواكشوط وترحيل أهلها منها وبيعها في ظروف تثير الكثير من الاحتجاج لدوائر غير بعيدة من تلك التى سلم لها برنامج التضامن، وبطاقة التعريف الوطنية ومشاريع أخرى كثيرة.
وبالجملة فإن موريتانيا اليوم تواجه نظاما إلغائيا يعرف جيدا تبخيس كل عمل سبقه ويوزع بسخاء أنواع الاتهامات على الرافضين للسير في جوقته، لكنه عاجزعن تقديم أي بدائل لملغياته التى لايسلم منها أي مجال، وهو ما يجعل البلد مهددا بالانهيار الكامل لأن عجلة الفعل الإيجابي فيه معطلة منذ سنوات، وعجلة الفعل " الإلغائي" تشتغل بكامل طاقاتها في بلد عانت مسيرة البناء فيه الكثير من الاضطراب منذ انقلب العسكر على الحكم فيه قبل أكثر من اثنين وثلاثين سنة وهو ما يعني أن واجب القوى الوطنية الموريتانية اليوم أن تأخذ على أيدي الإلغائيين قبل أن تغرق السفينة بمن فيها .