في سفوح مرتفعات أطار، حيث رسمت الطبيعة لوحة فنية رائعة، تتعانق فيها قمم الجبال بقامات النخيل الباسقة، ومع إشراقة شمس الـ27 من نوفمبر، كانت المدينة قد أخذت زينتها كاملة استعدادا لاستقبال الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وجادت عليها السماء برذاذ خفيف أنعش الحاضرين وزاد من روعة
المشهد..
حطت الطائرة الرئاسية بمدرج المطار، وما إن نزل منها الرئيس، حتى التحمت به جماهير الولاية، ليجد الحرس الشخصي صعوبة كبيرة في التعامل مع هذه الجموع التي أبت إلا أن تعبر بصدق وجلاء عن وفائها لقائد أعاد للوطن هيبته المفقودة، وللمواطن كرامته المسلوبة، وللمغبونين والحزانى حقوقهم الضائعة..
قضى الرئيس يومه الأول مشغولا بمتابعة سير المشاريع ووضع حجر الأساس لأخرى جديدة، وفي الليل كان على موعد مع برلمان شعبي مفتوح تنقل أحداثه على الهواء مباشرة، في مشهد يعبر عن بساطة الرجل، وثقته في سلامة النهج الذي قرر السير عليه طواعية..
لم يألف الموريتانيون خلال الـ60 سنة الماضية هذا النوع من القادة، لذالك جاءت مداخلات الحاضرين عفوية، بعيدة كل البعد عن الرسميات، والمجاملات "البروتوكولية" المتعارف عليها.. كل ينطق بما في قلبه، بلا خوف ولا وجل.. فالرئيس الذي يخاطبونه هو مؤسس هذه المدرسة السياسية التي كفلت للجميع حقه في الحرية.. يتحدث من شاء بما شاء، حتى ولو خرج عن حدود اللباقة أحيانا..
في صبيحة اليوم الثاني، وبعد احتفالية رفع العلم الوطني، في أطار مدينة الخيل، والنخيل، والصليل، ومراقد العلماء والمجاهدين، انطلق الموكب الرئاسي باتجاه آزوكي حيث مرقد الإمام الحضرمي، وتراتيل الشيوخ الركع، ووقع حوافر خيول الفاتحين، ومنها إلى شوم، فشنقيط مرورا ب"اكصير الطرشان"، سيرا على خطى قوافل الحجيج وهي تذرع الصحراء إلى حاضرة الإسلام استعدادا لرحلة الحج الأكبر، عندما يكتمل وصول ركائب العيس القادمة من غرب وشمال وجنوب البلاد..
شنقيط التي قدمت الإسلام سمحا، إلى غرب إفريقيا، احتضنت الرئيس ولد عبد العزيز، الذي لامس وجدان الشناقطة، ونفض الغبار عن إرثهم الثقافي الغني، وتاريخهم المليئ بالصفحات المشرقة..
من شنقيط إلى "انتيركنت" المنطقة الجبلية الوعرة التي لم ير ساكنتها أي رئيس موريتاني رأي العين منذ استقلال هذه الأرض، ومنها إلى "أوجفت" منارة العلم والثقافة، والسجل المشرق في تاريخ المقاومة..
في أوجفت أمضى الرئيس آخر لياليه في ولاية آدرار، بين المآذن، والمحاظر، وتحت ظلال سيوف الفاتحين، وأبى إلا أن يزور "امحيرث" غرفة عمليات المقاومة، ومركز التخطيط والتدريب، الذي انطلقت منه كتيبة المجاهدين لتضع حدا لحياة الحاكم الفرنسي لموريتانيا في مدينة تجكجة عام 1905.
كانت الرسالة واضحة، لا تحمل أكثر من تأويل، يلخصها جلوس الرجل إلى أحفاد قتلة كبولاني، في نفس المكان الذي تقرر فيه مصير الحاكم الفرنسي، وفي شهر الاستقلال تحديدا، رسالة مفتوحة لمن كان له قلب، هنا، أوهناك، أوهنالك..
فهل وصلت الرسالة.. أم على قلوب هؤلاء أقفالها..؟