تُعرف القارة الأفريقيّة بتنوّعها العرقي والثقافي والديني والطائفي أيضا، قلّ ما تجد دولة أو مجتمعا من المجتمعات الأفريقية؛ لا يوجد فيه هذا التنوع الجميل، إذ تجد في حيز مكاني ضيق كل هذه التنوعات، مسلم يسكن مع المسيحي، ومن يعتنق الدّين الأفريقي الأصلي،
دون أي حساسية، وقد يكونون أشقاء أو من أفراد العائلة الواحدة. كما يمكن أن تجد في المجتمعات التي يدين أهلها أو أغلبهم الدين الواحد، عدة طوائف مختلفة. فمثلا: عندما يتعلق الأمر بالمسلمين؛ ستجد فيهم الصوفي التّيجاني والقادري وغيرها من الطرق الصّوفيّة، كما تجد من بينهم غير الصّوفي كذلك، وعند من يدينون بالمسيحية؛ فهناك كاثوليكي وبروستانتي وأرثودوكسي، كما في إثيوبيا ومصرمثلا، وإلى جانبهم من لا يزال متمسكا بدينه الأفريقي الأصلي. رغم كل هذا التّنوع إلى درجة الاختلاف؛ لم يسجل أن حصل نزاع أو حرب بسبب هذا إلا نادرا جدا، وغالبا ما يكون سببه راجع إلى أمور أخرى غير دينية أو طائفية، لأن كل واحد منهم يتمسك بعقيدته بكل ما أوتي من القوة، ويحترم عقيدة الآخر، ولا يسمح لنفسه تسفيه عقيدة غيره كما لا يسمح غيره لنفسه تسفيه عقيدته. ولذا عاشت المجتمعات الأفريقية في سلم مجتمعي دائم، لا يشوبه إلا بعض الشوائب التي تسببها أمور أخرى من قبيل السّياسة وغيرها، وحتى العرقية لم تكن تمثّل مشكلة القارة الأفريقيّة، ولم تمنع الاختلافات العرقية في القارة من التّعايش والاختلاط، بل والتّزاوج بين مختلف الأعراق، إلا ما منعته اعتقاداتهم الطوطمية. وللأسف الشديد؛ الآن بدأ السّياسيون يستخدمون العرقية لتحقيق مآربهم الدنيئة، لأنهم ببساطة شديدة شرعوا في استخدام قاعدة المحتلين المعروفة في القارة وفي كافة مستعمراتهم السّابقة؛ التي قطعت شوطا كبيرا في تحرّر من تبعات ومخلّفات أولئك المحتلين، باستثناء القارة الأفريقيّة طبعا، التي أبى أهلها إلا أن يكونوا محتلين إن لم يكن عسكريا؛ يكون اقتصاديّا أو سياسيّا أو مجتمعيّا وفكريّا!. وتلك القاعدة تقول: "فرّق تَسُد". نتيجة هذا الاستخدام غير البريء من قِبل السّياسيّين، أصبحنا نرى في الوقت الراهن نزاعات ذات طابع عرقي في مجتمعات القارة الأفريقيّة، بأبشع أشكالها كما حدث في رواندا وأماكن أخرى.
التطرف الديني: مع ازدياد توافد الشّباب الأفريقي، من جنوب الصّحراء الكبرى ذي التعليم العربي، إلى دول العربية وخاصة الخليجية منها (السعودية والكويت تحديدا)، وظهور مدارس تنتمي إلى تلك الدول في داخل القارّة؛ بدأ الفكر الوهّابي المتطرف يتسرّب تدريجيا إلى فئة من الشّباب المنبهرين بكلّ ما هو عربي (سعودي على وجه الخصوص)، ظنّا منهم أنه الإسلام ذاته. وغالبا ما يكونون مِن مَن اتصلوا بتلك المدارس بشكل أو بآخر، عن طريق الدّراسة فيها أو اطلاع على مناهجهم الدّراسية، أو تواصلوا معهم ومع من درسوا في تلك المدارس سواء الموجودة داخل القارّة الأفريقية، أم التي في البلدان المنشأ، وتأثروا بفكرهم وأصبحوا ينظرون إلى نمط حياة أصحاب ذلك الفكر من تقصير الثّياب وإطالة شعر اللّحى وتخمير النّساء وغيرها من الأمور؛ على أنه هو ما يجب أن يكون عليه المسلم الحقيقي، وكل ما خالف ذلك فهو دخيل ليس من الإسلام في شيء حسب فهمهم، غير مدركين أنّ كلّ هذه المظاهر لا تتعدّى كونها نمط أو طريقة حياة (ثقافة) عند أولئك الناس ليس إلّا. وهنا بدأوا في احتقار نمط حياة مجتمعاتهم وطريقة تعاطيها مع الدّين الإسلامي، حتى بالغ بعضهم إلى حد وصف ما هم عليه على أنه بدعة أو كفر، مما أدّى في أماكن كثيرة إلى اصطدام ومقاطعة بين الابن ووالده؛ لأنّ الابن أصبح يرى أنّ أباه يعيش على بدعة وضلال!. ليت الأمور تقف عند ذلك الحدّ، ولكن هيهات؛ لأنّها تجاوزت ذلك إلى أبعد بكثير، إلى أن وصلت مستوى إعلان الحرب على المجتمعات والدّول، ما حدث وما زال يحدث في دولة مالي لخير شاهد على ذلك، حيث لم تهتم تلك الجماعات المتطرفة التي استفادت من فوضى الحرب التي اندلعت بين الحكومة المالية، والانفصاليين الطوارق؛ عند دخولها الأراضي المالية، لم تهتم إلا بتدمير التراث الإنساني والإسلامي الموجود هناك منذ مئات إن لم تكن آلاف السنين. وهنا تكمن خطورة هذا النمط من الفكر وهذه الجماعات على منطقتنا، لأنها تريد فقط تدمير تراثنا، ومحو هُويّاتنا، واستبدالها بهُويّة جديدة وافدة لا تناسبنا على الإطلاق، وبذلك يجب علينا تصدّي لها و منع تمدد تلك الجماعات أكثر داخل قارّتنا؛ لأنها تمثّل تهديدا خطيرا لوجودنا. وما يحدث في نيجريا والصومال ليس خافيا على أحد، وحتى ما يحدث في أفريقيا الوسطى غير مختلف؛ لأن سببه تطرف ديني من الجانيبن "سيليكا" المدعومة من بعض الدول العربية، و"أنتي بلاكا" المدعومة من فرنسا. كلّ هذه الجماعات تشترك في كونها تحمل أفكارا هدّامة وتنفّذ مشروعات تدميرية لهويّاتنا ونمط حياتنا...
ظاهرة التّديّن المتشدد أو الموجه لدى طلاب الأفريقيّين، ازدادت بشكل ملفت للنّظر؛ بعد موجات احتجاجية التي حدثت في الدّول العربية التي يعيشون فيها، وخاصة مع وصول تيار معيّن إلى الحكم؛ انجرّ بعض الشّباب إلى ذلك النّوع من التّديّن الموجه (أو المسيّس) انجرارا شديدا، حتى أصبح البعض منهم يتحدث عن أنّ هذا التّيار لو تمكّن في السّلطة في الدّول العربية التي هي جزء من القارّة الأفريقية؛ سيمهّد الطريق للمسلمين المهمشين في بعض دول التي يتحكم فيها غير المسلمين على مقاليد السلطة في جنوب الصحراء، للوصول إلى السلطة وبالتّالي إلى تكوين الخلافة الإسلامية المزعومة التي أصبحت من المستحيلات في هذا العصر الذي نحن فيه. فبدلا من أن يبدأ هؤلآء الشّباب في ترتيب صفوفهم ووضع استراتيجيات التي ستساعدهم في تطبيق تجربة الدول العربية إذا رجعوا إلى بلدانهم، انغَمسوا أو غُمسوا فيما لا فائدة لهم فيه ولا علاقة لهم به، فبدلا من الحديث عن مشكلات دولهم ومنطقتهم؛ دخلوا في الحديث عن الجهاد في سوريا، وتنظيم الرّحلات إلى غزّة في فلسطين. أتمنّى أن يكونوا قد أفاقوا من سباتهم الآن، وأدركوا أن التّغيير لا يُستورد من الخارج.
أخيرا: ينبغي بل يجب علينا، نحن المتعلّمين بالتعليم العربي لا سيّما من درس منّا في الأزهر؛ أن نقوم بدورنا كما ينبغي تجاه قارّتنا ونحمي أهلنا من التّطرف، ونتصدّى للجماعات والتّيارات التي تنشر الفكر المتشدّد داخل مجتمعاتنا، وتعيث فيها فسادا، وتهدّد وجودنا؛ لأن الإنسان إذا تمّ محو هويّته أصبح معدوما. وخطورة المتشدّدين الدّينيّين تكمن في عدم اعترافهم بالتّنوع الذي خلق الله البشر عليه، حيث تراهم يفرّقون بين العائلة الواحدة والعرق الواحد، فما بالكم بالجيران المتنوّعين عرقيا، كحالة قارتنا الجميلة... فهيّا بنا نمنع التّطرف الدّيني بكلّ مظاهره وأنواعه.
عبد الله يريل صو
ملحوظة: كانت هذه مداخلتي في إحدى النّدوات في القاهرة.