عندما تنهار القيم والأخلاق، ويهرب الحكماء والعقلاء من الميدان بدعوى ورع زائف، وعندما يكثر الهرج والمرج، وتشهر الأسلحة الفاسدة في كل مكان، فتنفجر قنابل السب ومفرقعات الشتم هنا وهناك، ويشهر بسلاح الفتنة العرقية هنا وهناك، وتستنفر القبيلة هنا وهناك.
عندما يحدث كل ذلك فأعلم بأن الصمت حينها حرام..
وأعلم بأن التفرج وقتها لا يليق حتى بالعوام..
وأعلم بأنه "ما كل مرة تسلم الجرة"، ولا يغرنك ـ يا أيها المتفرج دائما وأبدا ـ أن وطنك ظل ينجو دائما بأعجوبة، خلال تنقله من فاصلة زمنية حرجة إلى فاصلة أخرى أشد حرجا، وذلك في وقت ظلت فيه خيرة أبنائه تتفرج عليه دون أن تعينه، وكأنها تتفرج على لاعب سيرك يسير ببراعة على حبل رقيق معلق بين السماء والأرض.
وأعلم ـ يرحمك الله ـ بأن الوَرِع حقا، والوطني حقا، والحكيم حقا، والشهم حقا، والبطل حقا ليس ذلك الذي يهرب عن هموم بلده بدعوى ورع زائف، وليس ذلك الذي يحاول أن ينأى بنفسه ـ متعللا بحجج واهية ـ فيترك بذلك ثغرا مكشوفا هنا أو هناك في جسد وطن ممزق، أصبحت النصال تتكسر فيه على النصال، ولم يعد فيه موضع أصبع معافى.
وفي مثل هذه الأوقات العصيبة التي تفككت فيها دول عديدة في منطقتنا، والتي يمر فيها بلدنا بمرحلة حرجة، تصبح أخطر جريمة يمكن أن نرتكبها في حق وطننا هي أن نواصل الهروب، ونكتفي بالتفرج على متابعة الآخرين يعبثون بمصير وطننا، وبالتالي يعبثون بمصيرنا وبمصائر أبنائنا.
ولو أنه قدر لنا اليوم أن نلتقط صورة شاملة لرسم خريطة للموريتانيين حسب تفاعلهم مع قضايا وهموم الوطن، في هذه الفاصلة الحرجة من تاريخنا الحرج كله، لوجدنا أن خيرة الموريتانيين هم الذين يعيشون الآن على الهامش، وهم الذين يكتفون بالتفرج. وبطبيعة الحال فلا عذر لهم سواء كانوا هم من أختار العيش على الهامش، أم أنهم كانوا قد أجبروا على ذلك، لأنه في النهاية لا فرق في المحصلة بين الحالتين، إذا ما تحدثنا بمنطق سياسي بحت، فلا معنى إطلاقا لأن يقبل مواطن صالح بأن يقصيه مواطن آخر من التفاعل مع هموم وقضايا وطنه.
فكم هو مقلق ومخيف أن تكتفي خيرة أبناء هذا الوطن بالتفرج، وأن لا تفعل شيئا سوى الانتظار والانتظار فقط حتى يتحدد مصير الوطن، ويحسم أمره، على يد قلة من أبنائه لم تشتهر سابقا بحرصها على مصالح هذا الوطن.
فيا أيها الطيبون كفى هروبا..
ويا أيها الصالحون كفى صمتا..
ويا أيها العقلاء كفى سلبية..
ويا أيها الورعون كفى تفرجا..
لقد حان الوقت لأن تفعلوا شيئا من أجل وطنكم، لأنكم إن لم تفعلوه الآن فقد لا تتاح لكم فرصة أخرى لفعله، حتى ولو تولدت لديكم الرغبة لذلك.
ويبقى السؤال: ما الذي يمكن أن أفعله الآن من أجل وطني؟
أعتقد بأن هناك مجالين يمكن لكل واحد منا أن يتحرك من خلالهما لخدمة وطنه:
أولا : على المستوى الفردي: وهذا لن أفصل فيه، فالمهم أن يعلم كل واحد منا ـ ومهما كانت قدراته وإمكانياته، ومهما كانت الفرص من حوله ـ بأن هناك شيئا ما يمكن أن يقدمه لوطنه، وعليه أن يقدم ذلك الشيء الآن، ودون أي تأخير، وهذا يعني أنه عليه لا ينتظر صلاح المجتمع بأكمله ليقرر هو من بعد ذلك أن يكون مواطنا صالحا، فعندما يكون المجتمع صالحا بكامله، فحينها سيكون كل واحد منا مجبرا على أن يكون مواطنا صالحا. إن المطلوب من كل واحد منا هو أن يقرر ـ و من الآن ـ أن يكون مواطنا صالحا حتى ولو ظل المجتمع بأكمله فاسدا.
ثانيا : العمل في إطار فريق أو ضمن جماعة : وهذا المجال هو الذي سيتم التركيز عليه في هذا المقال، وسأكتفي هنا بالجانب السياسي نظرا لأهميته في إحداث التغيير نحو الأفضل، ولكن قبل عرض بعض المقترحات في هذا المجال، فقد يكون من الضروري تقديم بعض الملاحظات السريعة:
الملاحظة الأولى : لا شك بأن الوعي السياسي لدى الموريتانيين قد تحسن ـ وبشكل ملحوظ ـ خلال السنوات الأخيرة، نتيجة للهزات العنيفة التي شهدتها البلاد خلال السنوات الماضية، ونتيجة كذلك لما تشهده المنطقة العربية والإفريقية من تحولات كبرى.
الملاحظة الثانية: لاشك أيضا بأن ثقة الموريتانيين في نخبهم السياسية قد تعرضت لهزات عنيفة خلال السنوات الأخيرة، وأن مصداقية تلك النخب قد تراجعت إلى أدنى مستوى لها، نتيجة لسلسلة من الأخطاء الشنيعة التي ارتكبتها تلك النخب، والتي لم يسلم منها إلا من رحم ربك. ويمكن أن نضيف إلى ذلك بأن الزعامات التقليدية للنخب السياسية التي واكبت العملية الديمقراطية عند انطلاقها في بداية التسعينيات قد أصبحت مجبرة على الاستقالة وعلى الانسحاب التدريجي من المشهد السياسي، وذلك في وقت لم تستطع فيه الساحة الموريتانية أن تنجب جيلا سياسيا شابا يحمل الراية من بعد الزعامات التقليدية، وما ظهر حتى الآن، أو على الأصح ما أريد له الظهور، من "زعامات" سياسية شابة ينذر بالقلق، وذلك لأنه يقتات على خطابات شرائحية وعرقية وعنصرية، وهو ما يعني بأن الخريطة السياسية في بلدنا ستتشكل في المستقبل من ثلاثة أقطاب كبرى سيكون فيها التمايز على أساس شرائحي وعرقي، وليس على أساس سياسي أو أيديولوجي، هذا إن لم يتحرك الوطنيون الآن للوقوف ضد ذلك التمايز المنذر بالخطر.
الملاحظة الثالثة: لا شك كذلك أن النظام الحالي قد لعب دورا كبيرا في إضعاف دور رجال الأعمال والوجهاء وشيوخ القبائل في التأثير على الحياة السياسية، وذلك بعد أن سلب من أغلبيتهم الكثير من الصلاحيات والامتيازات التي كانت تمكنهم من تأمين مكانتهم الاجتماعية والسياسية. فاليوم لم يعد لدى الناخبين الكبار ما يقدمونه للاحتفاظ بمكانتهم (ولا يهم هنا إن كان النظام قد فعل ذلك بوعي أو بدون وعي، عن قصد أو بدون قصد).
الملاحظة الرابعة: لا شك بأنه قد أصبحت هناك ضرورة ملحة، وملحة جدا، لتجديد الطبقة السياسية، ولكن ـ بالتأكيد ـ ليس على أساس أن تجديدها هو مجرد عملية شكلية تقتصر على دفع بعض الشباب المفعول بهم إلى الواجهة السياسية، حتى ولو كان أولئك الشباب يفكرون بعقلية بائدة، ويتصرفون وفق منطق وأساليب أكثر بؤسا من الأساليب التي كان يستخدمها من يراد تجديدهم. إن تجديد الطبقة السياسية هو تجديد للعقليات ولأساليب العمل من قبل أن يكون تجديدا شكليا يركز فقط على الجانب العمري.
إن التأمل في كل تلك الملاحظات السابقة ليؤكد بأننا نعيش فعلا لحظة تاريخية فريدة من نوعها قد لا تتكرر في المستقبل المنظور، ونحن إن لم نستغلها استغلالا جيدا، فسنكون بذلك قد أضعنا فرصة نادرة لإحداث تغيير جاد في هذا البلد المتعطش للتغيير.
إن القراءة الذكية والفطنة لهذه اللحظة تقول بأنه على الموريتانيين الشرفاء في هذا البلد، أن يبدؤوا ـ ومن الآن ـ في التفكير الجاد لتأسيس تشكيلات سياسية غير تقليدية تكون قادرة على استقطاب الأغلبية الصامتة من أبناء هذا الوطن، وهي الأغلبية التي سئمت من لعب دور المتفرج.
لقد آن الأوان لتأسيس عناوين سياسية جديدة بمواصفات ومقاسات جديدة، تختلف عن كل العناوين القديمة، ومن الضروري أن تتميز هذه التشكيلات بجملة من الميزات يمكن أن أذكر منها:
1 ـ أن تكون لمؤسسي هذه التشكيلات نظرة مختلفة للعمل السياسي، تنظر إلى ذلك العمل بوصفه ليس إلا مجالا من مجالات العمل الخيري والتطوعي، وأن الغرض منه ليس تحقيق مصالح خاصة آنية، وإنما الغرض منه تحقيق مصالح عامة من خلال التضحية بمجموعة من المصالح الخاصة. ومن هذا المنطلق فقد يكون من المهم جدا أن تكون من شروط العضوية الانضمام لهذه التشكيلات، استعداد العضو للتبرع بساعة من وقته في كل أسبوع أو في كل شهر للخدمة العامة.
2 ـ أن يكون لمؤسسي هذه التشكيلات الجديدة القدرة على التفكير من أجل الصالح العام، فمشكلتنا في هذا البلد هو أننا لا نستطيع أن نستغرق في التفكير لدقائق معدودة في قضية عامة، وأننا لا نستطيع أن ننتج أفكارا قابلة للتجسيد الميداني من خلال الوسائل والإمكانيات المتاحة، لذلك فمن الضروري جدا أن يكون للقائمين على هذا الحزب خيال سياسي واسع، مع القدرة على إنتاج أفكار قابلة للتنفيذ.
3 ـ أن يكون لمؤسسي هذه التشكيلات من الثقة في النفس ومن قوة الحماس ما يكفي لمواصلة الأنشطة في ظروف صعبة. كما أنه على هؤلاء المؤسسين العمل من أجل إضفاء بعد أخلاقي حقيقي على أنشطتهم السياسية، وذلك من خلال الابتعاد الكامل عن الصراعات من أجل مصالح خاصة ضيقة، والابتعاد أيضا عن لغة السب والشتم حتى ولو كانت للرد على سب أو شتم.
4 ـ أن تغلق هذه التشكيلات أمام أي موريتاني في سجله الوظيفي أي شبهة في مجال التسيير، أو شارك من قبل في أي نشاط قبلي أو جهوي له صبغة سياسية، أو عرف عنه أي توجه عنصري، أو أي دعوى عرقية ضيقة، أو عرف "بالخفة السياسية"، وبكثرة الترحال السياسي.
5 ـ أن يكون لمؤسسي هذه التشكيلات القدرة على القيام بأنشطة ميدانية لتعزيز اللحمة الوطنية، ولمحاربة مخلفات الاسترقاق ( وهناك أفكار جاهزة في هذا المجال)، وأن يتركوا لغيرهم التحدث بتلك الشعارات، وأن لا ينافسوهم على التغني النظري بتلك الشعارات.
قد يخيل للبعض بأن تحقيق كل هذه الشروط هو مسألة في غاية الصعوبة، والحقيقة هي العكس تماما، فتحقيقها هو أمر في غاية السهولة، ولا يحتاج إلا لقرار جاد، وإرادة جادة، مع شيء قليل من طول النفس، وشيء غير يسير من الوطنية.
تنبيه : هذا المقال قد نُشر في وقت سابق، وأعدتُ اليوم نشره بعد تصرف يسير، وذلك لقناعتي بأهمية النقاش في مثل هذا الوقت حول المشروع السياسي الذي حاول هذا المقال أن يرسم ملامحه.
حفظ الله موريتانيا...