للمرة الثانية يتكرر التناوب في داكار، حين أخلف واد عبد ديوف، وعندما أخلف ماكي صال واد، وبعد خوف شديد على الديمقراطية السنغالية من الانهيار الكامل، بعد إصرار واد على الترشح والبقاء في السلطة، لكن أصوات السينغاليين أجبرته على الخروج الطوعي السلمي الحضاري، وعلى طريقة أكبر زعماء الغرب "الديمقراطي" اعترف بالهزيمة مهنئا خصمه الفائز.
ولولا تصويت السينغاليين الواعي، وقبول واد بنتائج اللعبة، لدخل غرب إفريقيا-خصوصا بعد انقلاب باماكو- في نفق مظلم موحش. فمالي دخلت في جو سياسي الله أعلم بمآله ومصيره، وواقعه الراهن نهب وخوف على الممتلكات والأرواح، وحرب في الشمال، وتهديد كامل لوحدة التراب الوطني المالي، فالقاعدة منذ سنوات تسرح وتمرح خصوصا في المنطقة المحاذية لموريتانيا والجزائر والنيجر. والأزواديون يدعون أنهم حرروا أكثر من 60% من منطقة أزواد. ومالي باختصار مهدد فعليا، بالتحول إلى منطقة نفوذ للدولة المركزية الضعيفة، وأخرى للطوارق، وثالثة للقاعدة ومن جاء من قطاع الطرق. وضع سيؤثر حتما على الجوار، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وأمنيا. فشوارع نواكشوط ملأى بالمتسولين القادمين من هناك، والحدود تشهد تواجد آلاف اللاجئين الأزواديين، وأمن وكيان موريتانيا الضعيف مهدد هو الآخر بالتأثر الكبير بهذه المعطيات المجاورة. وعلى العموم لا يمكن أن ننسى مبررات ومسوغات ما حدث في مالي، فليس الحدث معزولا عن محيطه الإقليمي. فبعد أن قبل المجتمع الدولي وخصوصا الاتحاد الافريقي بعزيز رئيسا لموريتانيا، بعد انقلابيين متتالين لم يعد أي نظام في العالم، وخصوصا في إفريقيا وغربها على وجه الخصوص، آمنا من التآمر والانقلاب. سواء من قبل ضباط كبار أو متوسطين أو جنود بسطاء. فلم يكن من اللائق إطلاقا قبول ولد عبد العزيز رئيسا لموريتانيا، فتلك رسالة مفادها، الحكم لمن تغلب، وليس لمن اختاره الشعب، واختيارات الشعب مهددة دائما بالانقلابات والتحايل والتزوير والمؤامرات الداخلية والخارجية، لحسابات أخرى. درس دكار من قلب الحضارة والتحضر يعطي أملا في احتمال نجاح المشروع الديمقراطي الافريقي. ودرس باماكو من خلف الأدغال، يكرس قانون الغابة وميزان القوة على حساب المصلحة والمشورة والتعددية. ولا شك أن للمشهدين المجاورين تأثير بالغ في الواقع الموريتاني، بشتى أوجهه وتجلياته. فإن كان الميل كالمعتاد إلى النموذج الانقلابي المالي، فلنتذكر آثارا انقلابات ولد عبد العزيز على سبيل المثال لا الحصر، فالحصار الدولي اقتصاديا وسياسيا، وتجميد عضوية موريتانيا في المنظمة الإفريقية، ترتب عليه الكثير من الضرر إلى أن أصبحنا على مستوى العاصمة - في سنة 2009 مثلا- في ظلام دامس شبه دائم، بسبب تكرر الانقطاعات الكهربائية يوميا، ومشاكل الماء في كل مكان، من أرض الوطن، إلا من رحم ربك. وتواصل الاختناق المالي إلى وقتنا الراهن وعادت مشاكل المياه إلى نقاط هامة من الوطن، وتعمق التأزم السياسي إلى حد الانسداد، مما دعا الكثيرين إلى مطالبة ولد عبد العزيز بالاستقالة والرحيل الفوري. فليتذكر الانقلابيون - مهما كانوا من كبار الجند أو صغارهم - مثل هذه الآثار السلبية المتنوعة، الناجمة عن الانقلابات. ولتتذكر النخبة هي الأخرى، لتدرك بوعي ان الانقلاب لا يثمر الديمقراطية والتوافق المفضي إلى التنمية والاستقرار المنشود. بل الفعل الشعبي وحده، المستند إلى الأسلوب السلمي الثوري المتوازن، هو وحده القادر على صنع المعجزة المطلوبة، للتخلص من التخلف والاستبداد، المتمثل في نظام ولد عبد العزيز في المرحلة الحالية. متى سنصبح في مرحلة الاكتفاء الذاتي من الديمقراطية والتنمية، ذلك مطمح بعيد المنال. فلطالما درس طلابنا في دكار، ولطالما تداوى مرضانا في دكار، ولطالما تأملنا استقرار هؤلاء ونجاحهم في الديمقراطية، ونحن في المقابل نتخبط في أتون حرب الصحراء، التي نشبت إثرها حرب مفتوحة على القصر الرئاسي وإلى اليوم. حدث بعدها - وبسببها- انقلاب 78، وتلت ذلك الانقلاب سلسلة انقلابات على طول النصف الأول من العقد الثمانيني، وختم معاوية نصف العقد بانقلاب 84، وبعد ذلك محاولة انقلابية دموية هزت حكم ولد الطايع في سنة 2003 ثم جاء الحارس "الأمين" بانقلاب سنة 2005 على ولي نعمته، ثم بآخر على من اختار في سنة 2008 واليوم لا أستغرب أن بعض صغار الضباط يفكرون - دون استفادة من الدرس السينغالي - في انقلاب آخر أكثر حماقة وسخافة، لأنه هذه المرة، شعاره أن صب البنزين تحت تهديد السلاح، وأعط الفلوس تحت تهديد السلاح، وهكذا... إنها بعض مخاوف الدرس المالي، الذي حرك القلق والترقب، لأن الجار لا يستغرب تأثره التلقائي بمحيطه القريب. منطقة غرب إفريقيا كلها، الآن في شد وجذب، بين فوائد الدرس السينغالي البليغ الحضاري، ومخاطر الحدث المالي المروع. الديمقراطية الغرب إفريقية في مد وجزر، قد لا نعلم بسهولة إلى ما سيؤول ويفضي، في محصلة المطاف والمسير. هل سترسو السفينة على شاطئ دكار للتزود من الوقود الديمقراطي، أم ستترجل القافلة إلى البراري المالية المحرومة من الشواطئ، لتغرف من معين الثقافة الانقلابية الجديدة؟!. ولا شك أن عبر ومواعظ الدرسين تتراوح في التأثير على النخبة العسكرية والمدنية على السواء، في بلادنا المتخلفة حتى الآن، عن الركب الديمقراطي الحقيقي. خصوصا ما دام يسومها هذا الانقلابي العنيد صنوف التمييز والمحسوبية والفوضى المتعددة المشارب., فلماذا لا ننتفض لنحرر أنفسنا، من ظلم وهوان هذا الحكم الحالي. والمستنطق لساحة بعض الضباط الموريتانيين، سيلاحظ أن بعضهم ما زال بعيدا عن تخمر الثقافة الانقلابية، ويرى أن ما يقوم به صاحبهم إيغال بالبلد في الخطر، وتقريب للأوضاع من حالة الانفجار والتفكك الكامل. وللأسف يعتقد الكثير منه أن الشعب قد لا يعول عليه في الخلاص، ولا يستبعد-على حد زعمه - انقلابا مسؤولا. فهل في الانقلابات مسؤولية؟ كلهم انقلابيون لكن منهم، من هو مفعم التفكير الانقلابي، ومنهم من هو دون ذلك-فحسب. ولقد حان وقت الفعل الشعبي ولا شيء سواه، يستحق التقدير والثقة. فكل انقلاب مكرس لسلطة العسكر، وشعاراته إما أن تسرق أو تجهض لاحقا. فالماليون بدؤوا بانقلاب ثم انتقال، ثم انتخاب، رغم ابتعاد صاحب هذا الانتقال-توماني - عن المسرح ردحا من الوقت، لكن الإجهاض جاء لاحقا. الثورة السلمية المسؤولة وحدها، هي أمل التغيير الحقيقي، وما سواها ديمومة للأزمة والمأزق المتنوع، في السياسة وغيرها. ويبدو أن البورصة في تبدل مستمر في شبه المنطقة، فمن انقلاب في مالي إلى تناوب سلمي على السلطة في السينغال, بل إن الفشل في مالي - أي فشل الديمقراطية والاستقرار - ربما ألهم واد التسليم والاعتراف بنتائج اللعبة دون مزايدة أو تنكر. وقد يغلب حق الشعوب طمع بعض أبنائها في السلطة والمنفعة بسبل غير شرعية، لكن ذلك يتطلب وعيا وجهدا مضنيا. إن ما حدث في باماكو جدير بالتأمل، وما وقع في دكار حقيق بالفحص والتشريح. إن الجرأة على طلب الحق، أول سلالم الصعود والرقي نحو نظام نموذجي، والحقوق لا تعطى في الغالب بقدر ما تستحق التضحية والإقدام. والاستبداد والتفرد بالقرار، ما لم يجد لم مبررا وجوا ملائما، لن يستطيع البقاء والتفريخ. فهل سنسعى لمضاعفة الجهد لحصار هذا النبت الشاذ الملوث للبيئة. بدل التحجج بأن مواجهة السلطة بالطرق السلمية انتحار وتعرض مجاني للخطر، والحقيقة أن هذا العذر محض جبن وتفريط في الحقوق الخاصة والعامة. فـ"كلمة حق عند سلطان جائر" لها مقامها الرفيع المعروف في تراثنا الحي النابض بالرفض المسؤول. و"الساكت عن الحق شيطان أخرس". فماذا ننتظر غير السلب والنهب والاستعباد المتواصل؟. لقد أصبح من أتيحت له الفرصة، يتفنن في السرقة والسطو على معاني وأرزاق هذا الشعب، المغلوب على أمره. أليس من بيننا رجل رشيد مقدام، بل ورجال مؤمنون صادقون نزهاء حكماء، يقدمون فيخلصون البلاد والعباد من هذه الورطة، الهابطة المستوى والتركيب؟ العيون مشدودة إلى الأفق بالدعاء والرجاء، والنفوس حبيسة الألم والأمل. الألم مما هي فيه، والأمل فيما تصبو وترنو إليه من فرج قريب. قال المولى جل شأنه: "فجعل من دون ذلك فتحا قريبا". وباختصار وإيجاز فلعل المستعمر الفرنسي قد ترك في السنغاليين مسحة تمدن وتحضر أكثر منا بكثير، فما من انقلاب واحد، سجل في السنغال. وها هي تلك الجرعة ترتفع في منسوب دمائهم الافريقية - المسالمة في أغلب الأحيان - لتنقذ ما تبقى من مشروع الدولة والديمقراطية في غرب إفريقيا عموما، والسنغال خصوصا. فهل نعي الدرس السنغالي - الملفت للانتباه إقليميا ودوليا - أم هل نفضل الانجراف مع انقلابيي مالي، الذين يهددون كل مكسب في دولتهم، وفي شبه المنطقة برمتها؟!. وإن كان من كلمة خاتمة، فلا بأس بالقول، إن المنطقة (غرب إفريقيا) كانت على وشك زوبعة عاتية على إثر انقلاب مالي، لكن تعقل الأستاذ عبد الله واد هدأ الوضع. وأثبتت التجربة الانتخابية الرئاسية السنغالية أن السنغال، دولة، ودولة ديمقراطية. فمن النادر أن يقبل رئيس افريقي الامتناع عن التزوير وهو في كرسي الحكم، ومن النادر أن يقبل الوصول إلى الدور الثاني، ومن النادر أن يقبل الفشل في الاقتراع، وهو ممسك بتلابيب السلطة.