ظهر الفساد في كل الأمم القديمة والحديثة ، و قد عرفه إبن خلدون في مقدمته بالجاه المفيد للمال، مبينا أحواله الكثيرة التي تختلط فيها التجارة بالإمارة ، مما يراكم ثروات سريعة سماها "بريع المنصب "، ونسميها نحن اليوم بالإثراء بلا سبب.
وعرفه عالم الاجتماع الفرنسي " بيير بوديي" برأس المال
الرمزي ليقابل به رأس المال المادي وعرفه أهل القانون أنه انحراف عن الالتزام بالقواعد القانونية، ويجمعون على أنه مدمر لحكم القانون لا سيما عندما يطال القضاء.
كما ركز أهل السياسة في تعريفهم للفساد على علاقته بشرعية الحكم، ونماذج القوة السياسية ، ودور مؤسسات المجتمع المدني. في حين، أهل الاجتماع يرونه علاقة اجتماعية تتمثل في انتهاك قواعد السلوك الاجتماعي ، في ما يتعلق بالمصلحة العامة ، وأهل البنك الدولي يعرفونه بأنه استغلال ، أو إساءة استعمال الوظيفة العامة من أجل مصلحة شخصية.
لكن الأسرة الدولية في إطار الأمم المتحدة، انصرف تعريفها للفساد سنة 2003 إلى الإشارة للحالات التي يترجم فيها إلى ممارسات فعلية يتم تجريمها مثل: الرشوة و/ أو الاختلاس في القطاعين العام والخاص و المتاجرة بالنفوذ وإساءة استغلال الوظيفة و الإثراء غير المشروع وإخفاء الممتلكات المتأتية من جرائم الفساد وإعاقة سير العدالة فيما يتعلق بهذه الجرائم وأخيرا أفعال المشاركة و/أو الشروع في كل ما سبق ذكره.
أنواع الفساد:
يجمع أغلب الدارسين لقضايا الفساد على أنه ينقسم إلى نوعين هما:
- الفساد الكبير: الاتجار بالسلاح - الاتجار بالمخدرات – تبيض الأموال - العمولات الكبيرة حول عقود البنية التحتية وعمولات الصفقات العمومية ؛
- الفساد الصغير: الرشوة – الاختلاس - استغلال النفوذ و/أو المنصب – تعيين الأقارب – تعيين الأصهار - تعيين الأبناء – تعيين غير أهل الكفاءة.
اقتصاد الفساد:
- تخصيص الأراضي و العطايا لتستخدم فيما بعد في المضاربات العقارية لتكوين الثروات؛
- تدوير المعونات المالية الأجنبية إلى جيوب المسؤولين الكبار ورجال الأعمال ؛
- تحويل عمولات البنية التحتية والصفقات العمومية من دخول حقيقة إلى دخول اسمية .
المتأمل في هذه التعريفات التي قصدت عرضها على القارئ، سيدرك بلا شك سعة مجالات الفساد ، وضيق دائرة متعاطيه و المستفيدين منه ، وفداحة تأثيره على الدولة والمجتمع.
كما سيستغرب كيف انفلت هؤلاء من العقاب، وكيف يسخرون الدولة ووسائلها لأغراض شخصية ، و كيف تهجر العقول ورؤوس الأموال، وكيف تستنزف خيراتهم من طرف مسؤوليهم وفق مبدإ "خذ خيرها ولا تجعلها وطنا".
أما بخصوص الرشوة، فهي البنت المدللة للفساد ووجهه الخفي سواء كان إداريا ( الاختلاس - استغلال النفوذ و/أو المنصب – تعيين الأقارب – تعيين الأصهار - تعيين الأبناء – تعيين غير أهل الكفاءة.) أو ماليا (الاتجار بالسلاح - الاتجار بالمخدرات – تبيض الأموال - العمولات الكبيرة حول عقود البنية التحتية وعمولات الصفقات العمومية) فقد حرمها ديننا الإسلامي الحنيف، وأنكرها المجتمع بكل مستوياته، وليس من السهل وضع اليد على متعاطيها، لأن تعاطيها يتم في ظلام دامس، وأشخاصها إن لم يكونا من أصحاب النفوذ فأحدهما بالتأكيد نافذ أو مستغل للنفوذ.
وتنقسم الرشوة في موريتانيا، إلى رشوة كبيرة وتعني اختلاس أو استغلال تعسفي لموارد عمومية معتبرة من طرف وكلاء الدولة، هم في الأغلب من النخبة السياسية والإدارية ، والرشوة الصغيرة المكتبية وهي عادة ما تكون في شكل إكراميات، أو هديا مقابل امتيازات، أو خدمات غير مستحقة ، أو مقابل إسقاط حق لخصم أو ند للراشي، أو بيع خدمة ذات طابع منفعي تبادلي سببها المباشر الزبونية السياسية والعلاقات القبلية والمحاباة وطول مسطرة الإجراءات الإدارية ، مما يدفع المراجعين إلى البحث عن خفافيش الإدارة لاستيفاء حقهم غير منقوص.
وأخطر ما ينتشر في إدارات الدولة من أنواع الرشوة ما أسميه أنا بالرشوة عند المنبع والرشوة عند المصب التي يمارسها من يفترض أن يكونوا أدوات الدولة لمحاربة الرشوة وهم الماسكون بتلابيب التسيير المالي ، حيث الإبطاء في الإجراءات والتحليل والتحريم والمحاباة والتواطؤ وقد بلغ بهم الحال اعتبار تلك الرشوة شرط لصحة الإجراء وضمان للسداد وعربون يجنبك بوائق المسير.
الجهود المبذولة من طرف الدولة لمكافحة الفساد ستظل صيحة في واد و نفخة في رماد مهما رفع من شعارات ما لم توجد الإرادة السياسية للقيام ب:
- وضع الرجل المناسب في المكان المناسب؛
- تعيين القوي الأمين لا القائد الزعيم؛
- تعزيز الرقابة الذاتية (الوازع الديني) لا الرقابة الإدارية؛
- نقل الإدارة من مفهوم الأنشطة الإدارية إلى العمليات الإدارية؛
- التقليل من ضغوط العمل الناتجة عن: ضعف الرواتب، ظروف العمل ؛
- تعزيز الولاء التنظيمي أي زيادة تعلق الموظف بمجاله الوظيفي ؛
- تقريب الإدارة من المواطن عملا لا قولا، أي حصوله على الخدمة بأقل جهد مادي و بدني ؛
- إدراك الموظف أنه يتقاضى راتبه من ضرائب المواطنين وأن عليه خدمتهم مقابل ذلك،
- زيادة في تفويض الصلاحيات؛
- إرساء الحكم المحلي بمفهومه الواسع لا بمفهوم اللامركزية المرفقية؛
- منح القطاعات العمومية الكفاية المالية والبشرية للاضطلاع بواجباتها؛
- تطبيق مبدأ من أين لك هذا،
- تطبيق مبدأ العقوبة والمكافأة؛
- اصلاح نظام المعاشات حتي لا يتذرع المرتشون والمختلسون بقرب التقاعد و بداية المصير المزري، مما يدفعهم إلى مثل هذه الممارسات؛
- زيادة في الشفافية وحكم القانون وإرساء العدالة .... إلخ.
في الختام، يمكن القول أن البلد يسير نحو جادة الصواب ، وأن المؤامرة عليه سيتم تفكيكها في المنظور البعيد، ريثما يكتمل بناء الثقافة المعادية للفساد ، والمناصرة لدولة الحق والقانون، مما يستدعي من الجميع المساهمة بكل ما يعرف عن خيوط الفساد والمكان الذي تعشعش فيه الرشوة.
وليست هذه المسيرة اليوم التي تصدرها أعضاء الحكومة بخير تعبير عن صدق نية من يؤمل فيه القضاء على الفساد، فمن بين هؤلاء- إن لم نقل جميعا - من يقر الفساد والرشوة واستغلال النفوذ والمنصب ولم ولن يبالي بما هو قادم لأنه يحسن معنى "انهار إل ماه لك خليه واجمل الدهر إل بركلك اركبو".