لقد أمر الله تعالى عباده بالإيمان وإتيان الأعمال الصالحات وفصلها في كتابه تفصيلا ثم أرشدهم إلى أن فعلها لا يعفيهم من سؤاله والتضرع إليه من أجل قبولها وحفظها عنده كما قال أبو الانبياء إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ،
وبين لهم كذلك مركزية التقوى والنية في قبولها بقوله: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات".(متفق عليه)
وبإجمال فإن أي عمل مهما كان لا يتأهل للقبول إلا بحصوله على شرطين :
أولهما أن يكون خالصا لوجهه تعالى لا يشترك فيه معه غيره بتقرب ولا رياء ولا سمعة فهو أغنى الشركاء عن الشرك.
ثانيهما أن يؤدى على الطريقة التي أمر الله بها دون تنقيص أو تزيد .
ورد ذلك صريحا في قوله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" (رواه مسلم)
وفسر الفضيل بن عياض قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قال: أخلصه وأصوبه، قيل: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إنّ العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتّى يكون خالصا صوابا، والخالص: إذا كان لله، والصّواب: إذا كان على السنّة.
ورغم وضوح هذه المعاني المجردة من نية وتقوى وإخلاص فقد اقتضت حكمته تعالى الستر على هذه الأمة وتركهم في حالة من عدم اليقين بمصير ما عملوا وقدموا رحمة بهم ورأفة لئلا يتكلوا ويغتروا إذا تيقنوا من القبول أو يقنطوا ويستسلموا إذا علموا عكس ذلك، فلذلك كان على المؤمن في الدنيا أن يظل متوازنا بين محرّكيْ الخوف والرجاء ومعتمدا عليهما في سيره وكدحه إلى ربه.
ولحكمة بالغة كذلك كشف الله لبعض عباده - لخصوصية تميزوا بها - عن مآل تصرفاتهم وأعمالهم على مسرح الواقع وبمرأى من الجميع وبقي ذلك استثناء زمانيا تاريخيا باتفاق أهل الذكر والعلم.
ومن ذلك قضية أكل النار للقربان وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى من نعم وغيرها فقد جاء في آية سورة آل عمران حكاية عن حال ماضية لبني إسرائيل وليس ربطا لقبول الطاعات بأكل النار لها.
والوجه الذي ذهب إليه أكثر المفسرين أنه كان مظهرا من مظاهر المعجزات وقع لبعض أنبياء بني إسَرائيل يكشف الله لهم به مصير ما يتقربون به وهو أنه "إذا تقرب أحدهم بقربان يقوم النبي فيدعو فتنزل نار سماوية فتأكله، وإن لم يتقبل منه لم تأت النار فيعرف الناس أن لم يقبل منه". (تفسير البيضاوي 2/ 52) ، (الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 2/ 399).
قال الشوكاني: ولم يتعبد الله بذلك كل أنبيائه، ولا جعله دليلا على صدق دعوى النبوة، (فتح القدير 1/ 466).
يعني أن أكل النار للقربان لم يوجب الإِيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات في ذلك سواء.
ولخص ابن كثير تفسير الآية بقوله:
يقول تعالى تكذيبا أيضا لهؤلاء الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم ألا يؤمنوا برسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدق بصدقة من أمته فقبلت منه أن تنزل نار من السماء تأكلها. قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. قال الله تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ} أي: بالحجج والبراهين {وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} أي: وبنار تأكل القرابين المتقبلة {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} أي: فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل. (تفسير ابن كثير 2/ 177)
وكم كان ابن عاشور دقيقا كعادته حين وضع النقاط على الحروف فقال:
وقد كان هذا حصل في زمن موسى عليه السلام حين ذبح أول قربان على النحو الذي شرعه الله لبني إسرائيل فخرجت نار من عند الرب فأحرقته. كما في سفر اللاويين. إلا أنه معجزة لا تطرد لسائر الأنبياء كما زعمه اليهود لأن معجزات الرسل تجيء على ما يناسب تصديق الأمة ، وفي الحديث: «ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة». (التحرير والتنوير 4/ 185).
الوجه الثاني ذكره السيوطي عن ابن أبي حاتم ومفاده أن مقدم القربان هو النبي نفسه وأنه : كانت رسل تجيء بالبينات ورسل علامة نبوتهم أن يضع أحدهم لحم البقر على يده فتجيء نار من السماء فتأكله . (الدر المنثور 2/ 399).
والوجه الثالث أن الأمر راجع إلى الأشياء التي حرمها الله عليهم فكانت القرابين والغنائم لا تحل لهم، وكانوا إذا قربوا قربانا أو غنموا غنيمة جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها، ولها دوي وحفيف، فتأكله وتحرق ذلك القربان وتلك الغنيمة فيكون ذلك علامة القبول، وإذا لم يقبل بقيت على حالها. (تفسير البغوي - 1/ 548). وكذلك قال ابن عطية: كانت هذه النار أيضا تنزل لأموال الغنائم فتحرقها، حتى أحلت الغنائم لمحمد صلى الله عليه وسلم. (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 1/ 549).
واضحٌ إذن ان الجامع بين الاوجه التي ذكرها المفسرون هو أنها تأتي كلها حديثا عن شرائع سابقة منسوخة أو في سياق المعجزة التي تتميز بشدة الوقع على النفوس البشرية وصدم العقول بما يخالف مألوفاتها فتذعن لصاحب المعجزة وهو خارج عن الأمور المألوفة العادية، فكان فضح السرائر في الدنيا مناسبا للقسوة التي اتسمت بها تلك الأمم في تعنتها وعدم انصياعها إلا للأحداث الخارقة والمعجزات المتكررة الباهرة كآيات موسى التسع التي حكى الله في القرآن وغيرها كثير، حتى فرض الله عليهم من التكاليف المرهقة ما فرض، وامتحنهم بما امتحنهم به.
أما في هذه الأمة فلم يجعله الله الاحتراق ونحوه إلا مصيبة وقضاء وقدرا يجب الإذعان له والقبول والرضا به لا علامة على قبول المتقرب به بل إنه لم يستجب لليهود بجعله معجزة لنبينا صلى الله عليه وسلم مع قدرته على ذلك ولكنه قرعهم وأقام عليهم الحجة بأن ذلك غير نافع في إيمانهم ورد عليهم فقال: قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم يعني القربان فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين.
لقد قرأنا كما قرأ غيرنا عن المشاريع الخيرية لصلحاء الصدر الاول من غنائم حنين، إلى سباق العُمرين، ومبادرات ذي النورين، وبئر طلحة الأنصاري، وفيض طلحة الفياض، وجنان أبي الدحداح... فما سمعنا عنها حرقا ولا غرقا وهي لعمري مظِنة الإخلاص ومئِنة الصواب والقبول.
تقبل الله منا ومنكم