"التغني المفرط بالأمجاد و العجز عن محاكاة الأجداد في تحصيل العلم و الانتصار على النفس بالجهاد"
أصبح من المسلمات البديهية أن علم التاريخ لم يعد تلك المادة الفجة الموحدة الشاملة و إنما قد تشعبت و أخذت طابع التخصص للإحاطة بشتى ضروب المعارف و الحقب وتفرق نبضها
فيها لتصبح لصيقا لا مناص منه بكل جزء منها و تخصص فيها يسبر غوره و يتقصى ديناميكية جزئياته عبر الزمان و المكان ليهتم و يؤرخ مسار الصابون، و الأرض منذ نشأتها و الجزرة و غيرها من النباتات و يسرة حياتها و الصناعة منذ بدايتها و الفنون و تشعباتها و الديانات و الحضارات و الآنتربولوجا و الجيولوجيا و غير ذلك مما لا يخلو مطلقا من مسار تاريخي. من هنا يتبين بما لا ريب مطلقا أنه أيضا لكل أمة في حيز بلدها الترابي تاريخا حضاريا و إنسانيا يربطها بأمم أخرى قد تكون ضمن فضائها الجغرافي و نسيجها الاجتماعي المتاخم أو أبعد، فليس لها أن تحتكره و لا أن تهمله،
و ثمة تاريخ آخر لها تمتلك ناصيته لأنه يحدد الخطوط العريضة لهويتها فلا تستهن بتشعباته و ثراء التنوع و الاختلاف فيه و لا تسقط في شراك استئثار جزء منه أو تفضيله على آخر و هي مطالبة بالنظر إليه في شمولية تقاطعاته و تكامل خصوصياته،
و ثمة ثالث تتقاسمه مع الإنسانية جمعاء فلا تميعه أو تقلل من شأنه في دائرة كل تاريخها الذي يشكل جزء من حاضرها و يرسم معالم مستقبلها.
كما أنه ثمة تاريخ حديث له مقوماته المستقلة و دلالاته الجديدة المرتبطة بواقع العولمة و ضرورة الاستشراف فيجد بناؤه و تحميله كل مناقب الماضي الدينامكية من جد و نبوغ و بذل و تصميم على النجاح.
لا يتطلب إدراك محنة التاريخ الموريتاني مجهرا فكريا، و لا بحثا علميا عن غائبِ بعيدِ لسبر غوره، و لا ترسانة الباحثين و المحللين الاعتيادية للحفر في ركام عصي على تبين المعالم و على التحريك لواقع من الجمود. كلا! إن محنة التاريخ في هذه البلاد يَحمِلُها مفضوحَة حاضِرُها الكئيب الرتيب و المفتقر إلى رافعة تنتشله من وحل التخلف الآسن و الأسطورية المحفوفة بالكبر و البدع، و إلى عجلات تحركه و تدفعه من ثم إلى الأمام.
و إن المتتبع لأحواله و المهتم بنفض غباره و معالجته بعد الغربلة الحتمية التي ستكون مضنية لا يحتاج بطبيعة واقعه المكشوف إلى كبير جهد للإعلان عن وضعيته المزرية و بُعد أهله عن مسار الاهتمام به و كتابته كتابة أمينة و تدوين أحداثه بكل تجرد.
من هنا سيتضح من أول ما سينجلي عنه الكشف البحثي أنه تاريخ امتزج فيه بعض إشعاع معرفي في حقبة عم فيها الظلام بلاد العروبة و الإسلام و قد بني بألمعية نادرة و رغبة جامحة في التعلم على تلقف سابق إفرازاتهما في الفقه المالكي و علوم القرآن الكريم و الحديث الشريف و لو بشكل أقل و اللغة العربية و آدابها والشعر تحديدا فكانت أمهات الكتب الفقهية كمؤلف "خليل" و "ابن عاشر" و "الاخضري" و "نص المنهج" و كتاب "ابن القاسم" و كتاب "أشهب" و في الأدب "المعلقات" السبع أو العشر الجاهلية و شعر "غيلان" و خطبة "قس بن ساعدة الأيادي" و بعض الأدب "الأموي" و "العباسي" و "الأندلسي" كـ"العقد الفريد" و"المستطرف" قد وصلت جميعها مدن بلاد شنقيط ليحتفظ به و ليجاريه و يبني عليه و ينسج على منواله في كل البحور الخليلية الخُصوصيُّ "الشنقيطيُّ" في الحفظ و الإدراك. و لكن هذا العلم ظل على حاله حتى أعاده البعض من العلماء و الأفذاذ الذين هاجروا في رحلات الحجيج إلى بلاد "الحجاز" و "نجد" و بلاد "المشرق" و "الشام" و "اليمن" و أرجاء بلاد الإسلام حتى "اسطنبول" و "أضنة" و "ديار بكر" و "إزمير" و غيرها في كل أرجاء تركيا "العثمانية". علم ميز هؤلاء "الشناقطة" و صنع لبلدهم صيتا و مكانة في قلوب المسلمين من عرب و عجم و إن لم يتمكنوا ـ و تلك نقطة ضعفهم ـ بحزم الفاتحين و البناة ربط بلادهم جغرافيا و علميا و إنسانيا بتلك الأصقاع و لا أن ينسجوا روابط تتحدى المكان و الزمان و تقوي العلاقات المترابطة ماديا و سياسيا و معنويا.
بل على العكس من ذلك فقد ظلت وبهذا الضعف بلاد "شنقيط" و مدنها التاريخية "ولاتة" و "تشيت" و "ودان" و "شنقيط" الحاضرة تبتعد مرة أخرى بفعل نضوب المهاجرين من المتمكنين و المجتهدين المتميزين من أبنائها و بعامل توقف العطاء على وتيرة تزداد عن مقومات الاجتهاد للحالات الوافدة مع تغير أنماط الحياة و متطلباتها الجديدة و غياب الاستنباط لكسر حالة الجمود السلبية لدين يحمل مع ذلك كل عوامل "التجديد" في "ختامية" رسالته و صلاحه لكل مكان و زمان، كما أنها المدن التاريخية التي تنغلق أكثر على نفسها مكتفية بما لم تتسع صدور أهلها للاستزادة من العلوم فيه من ناحية، و بسبب بُعدها و شبه انقطاعها عن المراكز المدنية الجديدة و كذلك هجرة شبابها الذين قلما يعودن، و إن فعلوا ففي انفصام و تأفف على رواسب حقبة كانت مع ذلك "الفاصلة" يومها بين نور العلم و ظلام الجهالة من ناحية أخرى؛ حقبة كانت فيها مقصدا أولا لطلب العلم و شحذ النفوس بفيض المعارف، و هو الأمر الذي عجزت حتى عن نيله بعد حين بفعل التطورات التي حدثت بعيد استعادة المشرق لألقه الأول و انتعاش جامعاته و على رأسها الأزهر الشريف من ناحية أخرى، فكان التأخر عن الركب و جمود العطاء في غياب الاستنباط و الاجتهاد و شحذ علامات النبوغ و مضاعفة محصلات الإثراء. حقيقة مرة و مرفوضة في العمق من أحفاد الآباء و الأجداد على خلفية تناقض ذلك من تغن زائد بالأمجاد (تلك أمة لها ما كسبت) و نفخ للقشور بـ "ادعائية" متجاوزة تكذبها حالة الجمود في مقابل انفجار العطاء العلمي و قوة التأليف و تزايد حوض الإشعاع في كل البلدان من حولنا و أبعد.