الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ولي المؤمنين، قال تعالى : ﴿الله ولي الذين آمنوا﴾، وناصر عباده المتقين، قال تعالى : ﴿إنا لنصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد﴾، وصلى الله وسلم على نبيه الكريم الذي بلغ الرسالة وأقام الدين وهدى الله به إلى الطريق القويم، قال صلى الله عليه وسلم
: ((تركتكم على بيضاء ليلها كنهارها)) ''ابن ماجة''، وقال صلى الله عليه وسلم : ((تركتكم فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي)) ''مسلم وابن ماجه وأبو داود''.
وبعد فإن من سنن الله عز وجل وقدره وعدله وحكمته أن يمتحن عباده المؤمنين ويبتليهم إمتحانا لهم وتمحيصا، قال تعالى : ﴿ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين﴾، وإن من هذا الابتلاء ما تشده بلاد المسلمين من المشرق إلى المغرب، من آسيا إلى إفريقيا من فتن عظام منها ما هو على يد أعداء الإسلام والمسلمين ومنها ما هو بين المسلمين أنفسهم إذ استباح بعضهم دماء بعض وبغى بعضهم على بعض، ومن هذه الفتن ما نشهده هذه الأيام من الدمار في العراق وسوريا والذي كان آخره في حلب الجريحة، ولما كانت حكمة الله وعدله تقتضي أن لا يصيب عباده المؤمنين إلا بما كسبت أيديهم، قال عز وجل : ﴿أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم﴾، وإن المستعرض لحال الأمة يستخلص أسباب شتى تعد العامل الأساس الذي بسببه يحل بالأمة ما يحل بها من فتن وهدم، ومن أبرز هذه الأسباب :
1. الشرك بالله عز وجل
ليس ذنبا أعظم عند الله عز وجل من أن يشرك معه غيره، قال الملك العظيم : ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾، وقال رسوله الأمين : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا : الاشراك بالله)) ''مسلم وغيره'' وإن من الشرك أن يستغيث المسلم بغير الله أو أن يستعيذ بغير الله، ولعل أقواما يظنون أن هذا لم يعد يجب طرحه في هذه الأيام، ولكن الله يشهد أني ركبت سيارة أجرة منذ أيام وكانت فيها امرأة مسنة والظاهر أنها تحب الدين ولها سبحة تسبح بها، فما كان منها بعد أن لامسها رجل حتى صاحت قائلة : يا شيخ فلان، فأين رب السماوات والأرض الملك الديان؟.
2. هجر القرآن
لا تسأل عن هجر القرآن الذي فيه شفاء الصدور والأبدان، فقد شاع هجره تلاوة وسماعا، وإن من مظاهر هجر القرآن هجر تلاوته في الصلاة فلا تكاد تسمع القرآن يتلى إلا في شهر رمضان مع أنه شهر القرآن ولكن هذا ليس من هدي سيد ولد عدنان، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه من هديه أنه يقرأ بما تيسر من القرآن، ومما أجمع عليه العلماء أنه كان يقرأ في الفجر بطوال المفصل ''ابن القيم/حاشية السنن''، وصح عنه أنه ((كان يقرأ في الغداة من الستين إلى المائة)) ''متفق عليه'' وقرأ فيها ب﴿المؤمنون﴾، ''مسلم''، وقرأ المغرب ب﴿الأعراف﴾ ''السنن'' وقرأ فيها ب﴿الطور﴾''البخاري''، وقرأ في الظهر ب﴿لقمان﴾''النسائي''، زد على هذا عدم تأنيهم في قراءة القرآن مخالفين بذلك أمر الله عز وجل، قال الله تعالى : ﴿وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا﴾، وما أمر بذاك إلا لسماع القرآن كلام الرحمن، قال عز من قائل : ﴿وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله﴾، يسمع لما فيه من صلاح القلوب والأبدان.
3. ترك الصلاة وإضاعتها
إن حال كثير من الناس اليوم هو ترك الصلاة أصلا ويتجلى ذلك في قلة زوار المساجد فلا ترى ثلث أهل حي يصلون في المسجد جماعة، والذي يصلي منهم جماعة في المسجد فصلاتهم لا تسمى صلاة شرعا لعدم الخشوع فيها ونقض أركانها وسننها كأنهم لم يسمعوا عن حديث المسيء صلاته مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بإعادة صلاته، قال صلى الله عليه وسلم : ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) ''البخاري ومسلم وغيرهما''، فكيف بأمة هذا حالها أن ترجوا نصرة ربها مع أن الباري سبحانه يقول : ﴿فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا﴾، وإن النفس لتتفطر إذا كان هذا المسيء لصلاته هو إمام المسلمين، فإنك تصلي خلف كثير من أئمة المسلمين لا تكاد تأتي خلفهم بركعة تامة بل بفاتحة الكتاب وهذا بلاء عظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون.
4. الربا وكثرة طرقه
لقد انتشرت آفة الربا مصداقا لأحاديث الصادق المصدوق حيث قال : ((بين يدي الساعة يظهر الربا والزنا والخمر)) ''الطبراني''، وقال : ((ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا أكل الربا فمن لم يأكل أصابه من غباره)) 'السنن والحاكم''، ثم إن الله تعالى أعلن الحرب على أهله ومتعاطيه، قال تعالى : ﴿ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله﴾، فكيف بأمة محاربة من الله ورسوله أن ترجوا النصر من الله عز وجل، وإن مما ظهر من الربا ويجب على العلماء التنبيه عليه والتحذير منه، قوم ينتشرون على الطرقات لديهم أظرفة يأكلون بها أموال الناس بالباطل مخالفة لتحذير الملك من أكل أموال الناس بالباطل، قال تعالى : ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾.
5. التفرق
لا شك أن اجتماع كلمة المسلمين من أسباب القوة وتفرقهم من أسباب ضعفهم، ولهذا فالمتتبع للقرآن والسنة يجد فيهما من المعاني التي تحث على الاجتماع وتنهى عن التفرق مالا يمكن عده ولا حصره، قال تعالى : ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا﴾، وقال : ﴿ولا تفرقوا فتفشلوا وتذهب ريحكم﴾، وقال ﴿ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ماجاءهم البينات﴾، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي)) ''البخاري ومسلم''، وقال : ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) ''متفق عليه''، كما حذر الصحابة والتابعون والعلماء من التفرق والاختلاف تمسكا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نقل ابن جرير عن قتادة أنه قال : إن الله عز وحل قد كره لكم الفرقة، وقدم إليكم فيها، وحذركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله. ''تفسير ابن جرير'' وورد هذا من غير ما قول من أقوال السلف والعلماء وفي غير ما كتاب من كتب أهل العلم، وحال الأمة اليوم هو التفرق شيعا وأحزابا فهذا من جماعة كذا لا يرى الحق في غيرها مهما كان قائله ويعادي من ينتمي لغيرها مهما كان قدره وعمله، ومع هذا يزعمون انتماءهم واتباعهم لرسوله، قال تعالى : ﴿إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء﴾.
ربنا اهدنا وارحمنا وألف بين قلوبا واجمع كلمتنا على الحق وأصلحنا ظاهرا وباطنا إنك سميع قريب مجيب.
والحمد لله رب العالمين
كتبه طلحة ولد ابيه