اسْتُقدِمت الديمقراطية إلى أهل هذه البلاد دون أن تكون الأرض مُمهدة أو صالحة لاستقبالها فكان لابد من تكييفها على قدر العقلية أو الوضعية الاجتماعية والسياسية الموجودة حتى وإن كانت تلك الوضعية تتناقض تماما مع مفهومها ومبادئها وإذا كان المبدأ السياسي الذي كان سائدا قبلها ومازال
يقوم على المحاصة السياسية حيث تتحدد علاقة كل القبائل بالدولة عن طريق الأفراد المعينين داخل الجهاز الحكومي فإن الوسائل الجديدة التى ستعتمد عليها الديمقراطية لتمرير الفعل السياسي ستكون أشد إبعادا ومُواراة للمواطن عن ممارسة حقوقه المدنية والسياسية
لقد ساعد ترشح السيد أحمد ولد داداه (1992 للرئاسة وما شهدته ولاية اترارزه من تحمّس ومناصرة لترشحه مقابل مناهضة الولايات الشرقية لذلك الترشح )على بروز البعد الجهوي كعامل سياسي دارت فى فلكه القبائل قبل الأفراد وحال دون تكوين قناعات فردية قد تؤسس فى إيجاد مواطن مشارك فى العملية السياسية يرى بعينيه لا بعيون الجهة أو القبيلة
لقد أدارت الموالاة والمعارضة حينها معركة جهوية بين أبناء الوطن الواحد مازالت طلقات مدافعها تُسمع إلى حد الساعة
وكان الغرض منها ومازال هو اختزال المواطن الموريتاني فى شعارات تخدم أغراضا آنية لبعض المترشحين ساعتها بيد أن الخطير فى هذا البعد هو تطبيع المواطن الموريتاني سياسيا واجتماعيا على عامل كهذا
ولم يُسق المواطن الموريتاني بعامل القبيلة والجهة فقط وإنما تمت مُخاتلته عن طريق رموز التصوف والعلماء طمعا فى استغلال عواطفه الدينية لأن السلعة السياسية عندنا تحتاج إلى الدعاية الدينية
وعلى قدر الانقسام الحاصل فى الساحة السياسية عادة ينقسم العلماء عندنا فقهيا
ولاشك أنه عندما تكون الفتوى جاهزة عند الاقتراع فإن باب الاجتهاد يكون موصدا أمام العامة
بهذه العوامل الإقصائية للفرد الموريتاني أُدِيرَ الفعل السياسي من طرف المعارضة قبل النظام
وبما أن المعارضة الموريتانية تدعي دائما بأنها تحرص على مصلحة هذا الشعب فهل انتهجت حقا نهج الإصلاح وهل كان لها من القدرة ما تستطيع به تغيير هذا الواقع أو التخفيف منه
فى رأي أنه كان بإمكان المعارضة الموريتانية الموجودة أن تركز أولا على إصلاح الحياة السياسية عن طريق الدخول مع النظام فى حوار لا يكون همها فيه هو مبدأ التبادل السلمي على السلطة أو أخذ الضمانات لأجل الدخول فى انتخابات من أجل الحصول على مقاعد فى الدوائر الانتخابية
وإنما يكون همها منصبا على القضاء على الوسائل السياسية التى عن طريقها يتم تغييب مفهوم المواطنة
واستبدالها بوسائل جديدة لإدارة الفعل السياسي يكون التركيز فيها على خلق مجتمع مدني يكون الولاء فيه للدولة والوطن لا للقبيلة أو الجهة أو الطائفة
وليس ذاك بالشيء البعيد فلو طالبت المعارضة بهيكلة اللائحة الانتخابية بطريقة تُبعدها عن مخاطبة القبيلة وبطونها مع قطع الطريق على المترشحين باسم القبيلة عن طريق الاكتفاء باللوائح الوطنية لو ركزت على البعد الوطني بد ل الأبعاد المحلية فى إدارة العملية السياسية وأجلت مسألة التناوب السلمي على السلطة إلى أن تُصبح تلك الإصلاحات أعرافا وقوانين سياسية لو سلكت هذا المسلك لأدى بها ذلك إلى خلق مواطن شريك فى الوطن قادر على المراهنة عليه غدا فى إدارة العملية السياسية
غير أن المعارضة الموريتانية لم تنح ذلك المنحى ولم تكن أبدا مهتمة بالمطالبة ببناء الحريات الفردية التي قد تُفضي إلى وعي عام يجعل الفرد يحترم شخصيته وكرامته فلا يبيعها مثلا بيع السلع أمام صناديق الاقتراع بل استعجلت فى أمرها وتعاملت مع الواقع الموجود بدل محاولة إصلاحه وكانت كثيرا ما تغيب عن الحوارات وتشارك فى الانتخابات وعندما كان النظام يفوقها بالجيش فإذا بها تراهن على شعب هي أول من شارك فى القضاء عليه عن طريق رموز القبائل والجهات و شيوخ التصوف والعلماء.