تتعدّ عوامل إعاقة اللغة العربية عن أداء أدوارها التواصلية والنفسية والتربوية والثقافية في موريتانيا، من قوة العداء لها عند نخبة عريضة من المجتمع كرجال الاقتصاد والتجارة والمال والإداريين والفنيين وحتى السياسيين، إلى استقالة الدولة عن تحمّل مسؤوليتها،
فهي لا تخطّط للتّمكين لهذه اللغة، وإنْ خطّطت لا تنفّذ، وهي لا تتّخذها لغة لا للعلم ولا للعمل، ثم عزوف فئة عريضة من الجيل الجديد عن العربية وانصرافهم إلى الفرنسية والانجليزية، متّهمين هذه اللغة بالتخلّف ومحاولين تجريدها من مواطن القوة فيها، تلك المواطن التي تتيح لها البقاء في التعليم والعلم والتقانة والحياة العامة.
ومن الواضح أنّ الذين يتبنّون هذه الرؤية يكشفون ـ ربّما من حيث لا يشعرون ـ عن خواء معرفي وإفلاس أخلاقي، لأنّهم بهروبهم إلى الأمام، وإحلالهم حسب تصوّرهم "اللغة الأقوى" محلّ "اللغة الأضعف" يفرّطون في نفسية الإنسان الموريتاني وكرامته وعزّته، ويظهرون عدم الاكتراث بهوية الأمة وخصوصيتها، ويقفزون على احتساب النتائج السلبية التي يمكن أن تتولّد من خلال التبعية للغات الأجنبية اجتماعيا وتنمويا وثقافيا، هذا بالإضافة إلى أنّهم يخطئون في التصوّر والتدبّر، فعلى افتراض أن اللغة الأجنبية هي الأقوى فهذا لا يعطيها الحق في "اجتياح" اللغة الوطنية، بقدر ما يتيح لها الفرصة أن تكون لغة داعمة ومكمّلة فحسب.
إنّ للغة العربية من عوامل القوة ما لا يحصى، فإضافة إلى أنّها لغة القرآن الكريم ذات القدسية عند مليار وربع مسلم في العالم، وتأتي في المرتبة الخامسة دوليا من حيث عدد المتكلّمين بها، وهي لغة التراث الثقافي والأدبي والفكري والعلمي المشترك للعرب والمسلمين أجمعين، وهي اللغة الرسمية لاثنتين وعشرين دولة عربية، وهي لغة معتمدة رسميا لدى المؤسّسات الدولية والمنظمات الإقليمية الكبرى، ثم هي إلى ذلك أيضا لغة غنية في معجمها، وتمتلك قدرة خارقة على إمكانية التجدّد من الداخل والتعاطي مع اللغات الأخرى ومواكبة العصر.
فلا شكّ أنّ لغة بهذا الحجم، وهذه بعض مواصفاتها، تستدعي من أصحابها أن يعملوا على تصحيح وضعها والمساهمة الفاعلة في نهضتها، وتيسير توصيلها للأجيال المعاصرة والقادمة.
لقد أقرّ الدستور الموريتاني اللغة العربية لغة رسمية للبلاد لكنّ هيمنة "النخبة" ذات الثقافة الفرنسية على مقاليد السلطة في البلاد وتغلغلها في مفاصل الدولة المختلفة همّش هذه اللغة، وترك هذا القرار حبرا على ورق، وقاد إلى سياسة معلنة (مشلولة) تدّعي تبنّيها والمحافظة عليها، وأخرى مبطّنة (نشطة) تقصيها وتقلّل من أهميتها.
وقد ولّدت هذه الوضعية المزرية جملة من التحديات التي باتت تواجه حال اللغة العربية في موريتانيا نجمل أبرز تجلّياتها في ما يلي:
ـ علاقة المجتمع الموريتاني باللغة العربية من الناحية الثقافية هي علاقة مهزوزة بفعل ما تسجله الإحصاءات من نسب الأمية المنتشرة في ربوع الوطن، وهي نسب مخيفة تقضي على كلّ أمل في الإصلاح اللغوي والثقافي داخل البلد.
ـ ضعف الإرادة السياسية والحسّ الوطني، فلغة أيّ دولة يجب أن تكون رمزا لكرامتها وسيادتها، ومقوّما بارزا من مقوّمات وجودها، فأية أهمية للغة الوطنية "الرسمية" حين لا تكون لغة التواصل والثقافة والاقتصاد والسياسة ولغة التعلّم والإعلام؟! إنّ الساسة الوطنيين لا يعطون للقضية اللغوية ما تستحقّ من عناية، ومقارباتهم في الأغلب تقصي هذه اللغة الرسمية/ الأم، وتمكّن للغة الفرنسية وتجعلها لغة تدريس المواد العلمية، وتلك "قاصمة الظهر"، يضاف إلى ذلك تقصير المجتمع في حماية لغته والدفاع عنها.
ـ هيمنة اللغة الأجنبية (الفرنسية) باعتبارها لغة العمل والتواصل في الحياة الاقتصادية وفي أغلب المعاملات الإدارية، وحتّى لغة التخاطب المفضّلة بين النخبة، يتعاطونها في ما بينهم ويتبجّحون باستعمالها أمام العامة، وفي هذه الناحية يشيع الإكثار من استعمال الكلمات الأجنبية بلا داع مع سهولة المقابل في اللغة العربية مثل: ( فيزا ـ كارت ديدانتيتى ـ باسبور ـ ترانزيت.....).
ـ الصورة النمطية السيّئة التي يرسمها في أذهان الناس أنصار الثقافة الفرنسية عن الناطقين باللغة العربية بشأن ضعف مستوياتهم وتردّي تكوينهم وعطائهم، وما دامت لهؤلاء المتفرنسين اليد الطولى، فلا بدّ أن يؤدي ذلك إلى إضعاف حظوظ أصحاب الثقافة العربية في الشغل، بل يجعلهم هدفا للتندّر عند غير قليل من الناس.
ـ إذكاء صراعات وهمية بين اللغة العربية وبقية اللغات الوطنية (البولارية، السونكية، الولفية)، فتبدو هذه اللغة كما لو كانت هي "الضرّاء" بالنسبة لتلك اللغات، أو أنّها هي حجر العثرة الذي يحول دون اعتمادها وتطويرها، في حين أن حال هذه اللغات مجتمعة واحد، فهي ـ بما فيها العربية ـ "تحت حدّ سكين" اللغة الأجنبية سواء.
ـ سطوة اللهجة "الحسانية" على الاستعمال العام في الحياة اليومية، وحتى على الاستعمال لدى المشتغلين بالتدريس في المدارس العامة، وأخطر ما في الأمر أن تجد أساتذة اللغة العربية أنفسهم يستخدمون اللهجة "الحسانية" في التدريس، هذا ناهيك عن مدرّسي العلوم التجريبية التي أصبحت منذ "إصلاح" 1999 تدرّس باللغة الفرنسية، وكذلك فإنّ مجالات الخطاب الجماهيري كمجلس النواب والشيوخ والمقابلات التلفزيونية والإذاعية والبرامج المسموعة والمرئية، غدت كلّها مخلصة للهجة "الحسانية" بشكل شبه مطلق.
ـ غياب مؤّسسات رسمية مختصة برعاية اللغة العربية، ومهتمة بالحرص على سلامتها ووضع الخطط التوجيهية وبرامج التأهيل اللازمة لنجاح تعليمها، بل ولتطويرها بشكل عام مثل المجامع اللغوية ومراكز البحث الاستشرافية وكذا المختبرات العلمية المختصة.
وممّا لا شكّ فيه أنّ كلّ هذه المعيقات تنذر بخطر متعاظم وشرّ مستطير، ولعلّنا ـ جنود لغة الضاد ـ لا نملك سوى أن نعمّق إحساسنا بعقيدة "الجهاد" في سبيل إحياء اللغة العربية وتصحيح وضعيتها عند أهلها، ثم ندعو مع ذلك من يعنيهم الأمر إلى إصلاح تعليمها في المدارس والمعاهد من الروضة إلى التعليم الابتدائي فالثانوي فالجامعي، وذلك بتصفيتها ممّا يعتريها من عوامل النقص والتخلّف والجمود، ووضع المناهج الجيّدة والكتب القيّمة والأساليب المتطوّرة، ثمّ العناية بمدرّسها، فهو قطب الرحى، وأساس العملية التعليمية في كلّ مراحلها وأطوارها، ويجب أن يعدّ إعدادا جيّدا حتى يعطي وينجز ونجني ثمار عطائه وإنجازه. كذلك يلزم وجود مُراجِع لغوي متخصّص في التلفزيونات والإذاعات ولدى الصحف والمجلات ومؤسّسات الإعلان، والتقليل قدر الإمكان من البرامج والمقابلات المذاعة باللهجة المحلية، والإكثار من المسابقات عبر وسائل الإعلام المختلفة في علوم اللغة العربية وأنواع الكتابة من شعر وقصة ورواية ومقالة وبحث، وتقديم الجوائز القيّمة للفائزين. وأخيرا وليس آخرا العمل سريعا على إنشاء مجمع لغوي عربي متخصّص في البلاد.
إنّنا واثقون كلّ الثقة من وعد ربّنا بحفظه لكتابه العزيز ولغته الجميلة "إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون" لكنّ ذلك لا يسوّغ لأهلها التخلّي عن مسؤولياتهم نحوها، وإنّما عليهم أن ينهضوا لنجدتها ويتفاعلوا مع مشكلاتها ويستشرفوا مستقبلها بآمال ومخطّطات واعدة وكفيلة بمواجهة كلّ الصعوبات والمعيقات لمسيرتها الثقافية والعلمية.