اطلعت في أحد المواقع على تقرير مصور لقناة عربية حول عجوز معمرة في موريتانيا يبدو أن أصحابه يطمحون من بين أشياء أخرى إلى دخول موسوعة غنس للأرقام القياسية لكن أخشى أن يكونوا قد دخلوا الموسوعة بالمقلوب. فكل شيء في ذلك التقرير يبدو مفبركا: الرسالة الإعلامية متعددة الأوجه ،
مشاعر الأسرة ، المشاهد ،الوقائع، التواريخ ...وباختصار الزمان والمكان.
الشيء الوحيد الذي بدا لي صحيحا في ذلك التقرير المصور هو أقوال العجوز ومشاعر الطفل. فالطفل والعجوز في ذلك التقرير هما وحدهما من عبر عن الحقيقة لكن أية حقيقة ؟ إنها الحقيقة المكبوتة لدينا جميعا سواء أكنا سادة سابقين أم عبيدا "حاليين" أو سابقين هي أننا جميعا لا نريد قول الحقيقة والتحرر من المكبوت :
مشاعر الطفل لا تزال مكبوتة عند والديه في منطقة اللاشعور ولا تزال غير مكبوتة في بعض الفضاءات الجغرافية والذهنية.
وأقوال العجور - رغم صدقها- لا تزال تجرح مشاعرنا جميعا وإن بطريقة مختلفة وتمثل لدى البعض منا جرحا نرجسيا يدفعه إلى الكراهية وربما إلى العنف.
المضامين التي عبرت عنها أقوال العجوز حقيقة لكن لم يعد موجودا منها في الواقع إلا القليل جدا لكن أكثرها لا يزال مكبوتا عند الكثير منا بل لا يكاد يوجد غيرها في اللاشعور وهذا لا يعني أنها لم يعد لها تأثير في الواقع.
والمضامين التي تحملها المشاعر ولغة الجسد عند الطفل هي التي توجه سلوك الكثير منا سواء أكانوا من العامة أو من الفقهاء والساسة.
إننا بالفعل أمة ممزقة!
لكن لماذا تكون مشاعر الطفل صادقة وكذلك أقوال العجوز ؟
مشاعر الطفل صادقة لأنها بالفطرة لا تعرف الكذب ولا المداهنة ولأن هناك شيئا لا بد أن يتغير لكي يقبل الدور الذي طلب منه : الطفل لم يقبل الاستقرار في حضن العجوز واستعاض عن ذلك بالصراخ ، والعجوز لم تحتضن الطفل بالحرارة المعهودة.
أما أقوال العجوز فهي صادقة أيضا لأنها لا علم لها بما يجري من حولها في المشهدين العام والخاص : تحدثت عن عالمها بما تعرفه بدون زيادة أو نقصان ولو استرسلت في الحديث فلربما ذكرت أسيادها بخير لا لأنها تفتقر إلى الوعي بحقيقة وجودها بل لأنها كانت تنظر إلى ذلك الوضع بعيون المرحلة .
والحال أن مشكلة العبودية في بلدنا قد تحولت إلى مكبوت يؤثر بطريقة سلبية في وجدان الجميع :
هي عقدة عند المستعبِدين وأحفادهم تؤدي بهم إلى الشعور بالذنب وإخفاء المكبوت وعدم الاعتراف به بل وإلى التنكر لآثاره التي قد تكون أكثر خطرا على الأمة من الوقائع نفسها .
وهي عقدة عند المستعبَدين وأحفادهم لأنها جعلت مرارة تلك الواقعة التاريخية تعيش معهم أينما حلوا وارتحلوا وتمنعهم من تصديق أن الأمر لم يعد واقعا ولم يعد في إمكانه أن يكون كذلك .
الأولون ليسوا على حق لأنهم لا يدركون خطورة تلك الآثار على مستقبل التعايش في البلد كما أنهم لا يشعرون بمقدار الضرر النفسي والمعنوي الممتد لتلك الواقعة على أحفاد المستعبَدين (وقد علّمنا آبيقور أن اللذة لا تكون حقيقية وكذلك الألم إلا مع وجود صفة الديمومة).
والآخرون ليسوا كذلك على حق لأن إحساسهم بالدونية لا يتأسس على شيء ولا يغير من كونهم ولدوا أحرارا في الواقع وفي الشرع والقانون وفي الأعراف الدولية..
صحيح أن الآثار الاقتصادية والتربوية والنفسية هي أظهر من أن تخفى لكن شعور أجيالنا المقبلة لن يكون سويا إذا لم نعلم أبناءنا كيف يتحررون من ذلك المكبوت ومن تلك العقدة لكن صحيح أيضا أننا أمة بدون مدرسة !
قد يرى البعض هذا الكلام جارحا أو غير مناسب من شخص مثلي لكن ليعذرني فالكلام حول المكبوت هو دائما هكذا فذلك المكبوت نفسه أو تلك العقدة هي التي تجعلنا نحكم حكما مسبقا على كل من يتحدث في الموضوع بأنه يعاني من عقدة ما لكننا نحن من يعاني من تلك العقدة كل على طريقته.