لا تستغربوا، نعم هناك استثمار للتوتر في عالم اليوم، وتعلمون معنا أن هناك توترات تُفتعل وهواجس تُختلق وحروب تُشعل من أجل تنشيط سوق السلاح العالمي، وتدمير من أجل إنقاذ شركات البناء وإعادة الإعمار، بل ويقال إن هناك فيروسات وجراثيم تُبث من أجل رواج سوق الأدوية والمضادات الحيوية
والأمصال أو اختبار فعاليتها.. وصراع الحضارات، بكل تجليات تلك الحضارات ثقافيا واقتصاديا وسياسيا، ليس أوهاما أو أباطيل بل حقائق قديمة تتطور مظاهرها ووسائلها وتتجسد أمامنا اليوم في أكثر من ساحة وقارة وإقليم، ومناط ذلك الصراع هو المصالح والنفوذ.
فحن إذن لسنا في عالم بتلك الوداعة والمثالية والإيثار البيني ما بين بلدانه وأقاليمه رغم الديباجات المنمقة للمواثيق الدولية والإقليمية التي كلها سلم وحسن جوار وعدم تدخل في الشؤون الداخلية وتساو للدول أمام تلك المواثيق، فهي إذن المصالح التي لابد لتحقيقها من النفوذ ومن ثم، إن شئت، تحدث عن السلم والسلام وحسن الجوار.. بل وعن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
المغرب ليس بلدا غنيا ليكون بالنسبة لنا شريكا كبقية الشركاء الممولين بشكل مباشر أو أولائك الذين لهم نفوذ لدى المؤسسات المالية والنقدية الدولية والعربية، لكن بيننا وبينه ما هو أكثر وأهم من منطق الحسابات المالية، حيث الدم واللغة والدين والجغرافيا والتاريخ.. ولو كان لا يزال لتلك المشتركات مكانتها لدى من يشتركونها، دون أن تعكرها أو تطغى عليها أو تحل محلها المصالح والتنافس ومطاردة النفوذ، لما قام الكثير من التوترات والنزاعات والحروب.
لكن المغرب، وهذه حقيقة، بلد سبقنا للدولة والتمدن والتحضر بقرون، بما يقتضيه ذلك السبق من تفوق علينا طبعا في الكثير من المجالات التي استغل حاجتنا إليه فيها كمجالات التعليم والتكوين والاستشفاء والفلاحة والتعمير والتجهيز.. ولأن رهان كل هذه المجالات وأداة التمكن منها هو التعليم والتكوين، فقد ظلا على رأس مجالات التعاون بين البلدين طيلة العقود الماضية، حيث فتح المغرب مؤسساته التعليمية أمام الطلاب والأطر الموريتانيين، وبالعودة للمصالح والنظرة الاستراتيجية لن يغيب عن أذهاننا الهدف من ذلك التركيز على تكوين المصادر البشرية، كما تلجأ لذلك العديد من البلدان، لخلق مجموعات من الأطر تدين لا نقول بالولاء وإنما، على الأقل، بالتعاطف مع بلد التكوين.. تتوزع هذه المجموعات في مفاصل إدارات بلدها ومن يدري أن يصل بعضها إلى مراكز قيادية يكون مركزه القيادي دعامة لبلد تكوينه في علاقاته؟
خلال السنوات الأخيرة، وبعد عقود من التخبط والنظر على مستوى الأنف وبين القدمين، بدأنا نحدد حاجيتنا وأولوياتنا وننطلق على أساسهما في مسيرة وضع الأسس التنموية والمنشآت التي تغنينا جزئيا وبشكل مرحلي، ومن ثم كليا وبشكل مستدام عن غيرنا سواء كان المغرب أو غيره، على الأقل في المجالات التي عادة ما يتم تأسيس الدول عليها، فبدأنا تنويع مجالات التعليم والتكوين وأنشأنا لذلك الجامعات والمعاهد والمدارس المتخصصة وأدخلنا الكثير من الإصلاحات على مناهج التعليم العالي والتكوين استجابة لمتطلبات المرحلة، وأنشأنا المستشفيات العامة والمتخصصة التي ليس معنى إنشائها أنها ستغطي الحاجات أو تغني عن اللجوء للاستشفاء الخارجي بمجرد بنائها وتجهيزها، لكنها ستكون نواة تتطور وتُراكم التجارب والخبرات إلى أن تصبح كمثيلاتها في البلدان الأخرى. وفي المجال الفلاحي توسعنا في الاستصلاحات وإقامة أنظمة الري والسدود والتوسع في زراعة الواحات عبر إدخال التقنيات الحديثة.. وبالمضي قدما في هذه السياسات والمتابعة الصارمة واليقظة والفنية لها سيؤتي كل ذلك أكله وثماره ونتائجه.
وأنا أتابع، وأضحك، كلام من وصفتهم القناة المغربية بالمحللين وهم يتكلمون عن مطار نواكشوط غير المسقف، وعن حدود موريتانيا المفتوحة والمنفلتة وتصديرها للإرهابيين إلى النيجر ومنطقة الساحل، وتحالفها هي والجزائر مع القاعدة، وعن فتح الجزائريين " أقهاوي " في نواكشوط وغير ذلك من المضحكات، لفت انتباهي قول أحدهم باعتماد موريتانيا على الخضروات المغربية، وهو ربما الشيء الوحيد الصحيح في مثل هذه " التحليلات "، لكننا لا نعرف ما إذا كان هذا المحلل يدرك أن تلك الفواكه والخضروات ما هي إلا الدرجة الأخيرة، أو ما قبل الأخيرة، من عملية فرز المنتجات الفلاحية المغربية على أساس الجودة لتصدير الأجود منها للأسواق الأوروبية وتموين السوق المغربي بفائضه وجلب الدرجات الدنيا للسوق الموريتاني، وإن كان جلبها لنا أحيانا مجرد تغطية على " بضاعة أخرى " أكثر رواجا وأعلى أرباحا.. سواء كانت تنتهي في أسواقنا أو تعبر حدودنا إلى بلدان أخرى جنوب الصحراء!
لكن اعتمادنا على الخضروات المغربية ليس ذنب المغاربة الذين من حقهم البحث لفائضهم من الإنتاج عن أسواق وإنما هو ذنبنا، فلو كنا مجتمعا منتجا غير متكل ولا متكاسل لما أحتجنا لمنتجات غيرنا من هذه المواد، ولا تقولوا هنا الدولة أو الحكومة لأنني شخصيا من أهل الميدان وأعرف تجمعات وقرى عديدة في البلاد تقع على حافة النهر أو البحيرات أو تمتلئ سدودها بالماء موسميا ومع ذلك تعيش على " مارو لبيظ "! كما أن اعتمادنا على الخضروات المغربية ليس كليا، إذ لا مشكلة لدينا في إنتاج الخضروات شتاءا حيث الظروف المناخية ملائمة لإنتاج كل أنواع الخضروات بكافة مناطق البلاد، والعجز الذي نعانيه في إنتاجها يكون عادة في فصلي الصيف والخريف حيث درجات الحرارة المرتفعة غير المواتية لإنتاج الخضروات، لكن ذلك ليس هو نهاية الدنيا، فمدينة نواذيبو مثلا بمناخها المعتدل على مدار السنة، تقترب في ذلك المناخ من مناطق إنتاج الخضروات في المغرب، وهي قادرة على أن تصبح خزانا لإنتاج حاجيات نواكشوط وجوارها من الخضروات صيفا إذا ما خُطط لذلك وأخذت له التدابير، وأستُفيد فيه مما تتيحه المنطقة الحرة من توفير المستلزمات الزراعية الحديثة المعفية من الضرائب، بل ولم لا تُدرج المنطقة الحرة الإنتاج الموسع للخضروات في برامجها وخططها الاستثمارية؟
ربما لا يعلم هذا المحلل أيضا أن سوقنا غارق بالأعشاب والمستحضرات المغربية التي لا رقابة عليها والله أعلم بمدى صلاحيتها وسلامتها، ومواطنونا غير المدركين لخطورتها مقبلون على شرائها من تجارها الجشعين، فهذه أعشاب ومستحضرات للكلف والنمش والتجاعيد، وهذه للعقم والضعف الجنسي، وهذه للسكري والضغط وآلام المفاصل وهلم جرا..!
لا أتمنى، ولست من المتحمسين، للإفراط في الحساسية مما يوصف بالهجمة الإعلامية المغربية على موريتانيا، ومطالبات البعض بالتصدي لها ومنهجة الرد عليها في وسائل الإعلام الرسمية، أو على الأقل أفضل التريث والانتظار حتى تخرج تلك الحملة من طابعها الترهاتي الحالي.. إذ بماذا سنرد على تراهات؟ بتراهات مماثلة؟! لا أرى هذه الحملة، بالأخذ في الاعتبار تاريخ العلاقات بين البلدين ولعنة المنطقة ( قضية الصحراء المزمنة )، إلا في إطار تحسس وشعور من الجانب المغربي بوضع أسس ومقومات لاستقلال جديد وشباب عن الطوق واستقلالية في التحرك والقرار باشرت موريتانيا متطلباته خلال السنوات الأخيرة، وبذلك يصبح التوتر الحالي مجرد غمامة صيف ستزول عندما يدرك الطرف الآخر أننا أصبحنا يدا لا يمكن قطعها.. والرابح هنا هو من تحكم في أعصابه، فهناك ثلاثة خطوط حمر هي أمننا وسيادتنا ومصالحنا العليا منشغلون بها ومشتغلون عليها وما عداها مجال لن يضرنا من يخوض فيه، خاصة إذا كان خوضا بالتراهات والمغالطات التي لا تقنع ناسجيها أحرى مستمعيها!