يتوقف تقييم المثقف إن كان نقدياً أو زائفاً على مدى ارتباطه بجمهوره واستيعابه لثقافة مجتمعه ، لأن الأفكار تستمد أهميتها، وتاريخيتها، عند تحولها الى قوى بأيدي الشعب من خلال الوعي النقدي الشمولي للواقع ، وحينها تتحول البلاد إلى كتلة ناهضة بعد أن تمردت على ثقافة اللاجدوى،
النخبوية الشكلانية عند المثقف التقليدي الذي يجرّد المعرفة من كل معنى تحرري، إنساني وأخلاقي في حالة من التفرد و التنائى بوصفه فوق الشعوب .
ومع ذلك يرى المفكراليساري " أنطونيو غرامشي " أن الطبقات تفرز مثقفيها تجانسا ووعيا ، فالمثقف العضوي ينطلق من الراهن ومن السياق ويعتمد على التحليل والبراهين ليستخلص بعدها الرؤى، وينطلق من كل ما هو نسبي وتاريخي ، ولا يركن لثابت بل هو متمرد على المألوف ويمارس دوره من موقعه الفكري المستقل والمسؤول ولكنه غير حيادي لأنه منحاز الى جمهور الفقراء والمهمشين ويعمل على نشر قيم التقدم والحرية .
وإذا تأكد هذا فإن عملية خلق المثقف النقدي في بلادنا قد تشكل الرافعة العملية بإتجاه صياغة طبقة جديدة تستقطب المثقف التقليدي بعد أن صقل نفسه عن طريق وعيه الشعوري بالأشياء ، بما يشير إلى أن إعادة إنتاج المجتمع لا يمكن أن تقودها فئة متواطئة ضد جمهورها ، ولا يمكن أن ترتقي بوعي سطحي مفاده أن المثقف يمكن أن يكون نخبويا إذا تميز وابتعد عن الأمة دون الشعور بالأحاسيس الأولية للناس، ومن ثم تفسيرها وإيجاد التبريرات لها في إطار وضع تاريخي واجتماعي محدد .
وهذا يؤكد ضرورة البحث عن النموذج البديل المؤهل لتفكيك الخطاب الذي يعمل على طمس واقع التفاوت، والالتفاف على مكامن التناقضات الحقيقية ، وهي عملية معقدة لكنها غير مستحيلة ، وهكذا يهجس المكان للمثقف النقدي المتماهي مع المواطنين العاديين لينزع الى الفعل في مستقبل يتشاركه والجماهير بوصفه واحدا منهم و ليس فائقا عليهم ، فمادة ابداعه هى همهم وأحاسيسهم التى يهبونها له .
وبما أن الشعب الموريتاني يتطلع اليوم إلى البناء والتقدم
فإنه يرفض تماما المناكفات السياسية والتنافس السلبي بين الأحزاب المعارضة والموالية ،على أساس ما سيحصل عليه قادتها من مزايا ذاتية شغلوا بها أنفسهم عن هموم الوطن وتطلعاته ، بدلا من أن يكون هذا التنافس يستهدف في الأساس بناء الوطن ، والحرص على مكتسباته .
وهنا يبرز دور (المثقف العضوي )الموريتاني الذي يمتلك خطابا مستقلا جامعا وسطيا بديلا ، وهو ما يقتضي إنشاء تكتل ثقافي فكري نقدي على هامش الأحزاب ، ينطلق من أفكار وأحاسيس المواطنين ويخلق وعياً بالتقدم تتحد عنده الفكرة بالممارسة وتتبلور لديه رؤية شاملة ومتماسكة .
وبالركون إلى هذا كله فإن الخلل الذي نعاني منه اليوم في مجتمعنا لا يصلحه إلا التفاعل الفكري ، والانسجام القيمي والأخلاقي والنضالي ، بعيدا عن القهر والتهميش وتأليب جانب على آخر من خلال وسائل إعلامنا الحرة ، لذلك يجب على السلطة السياسية أن تمثل دور الوازع الذي يحترم الرأي الآخر لأن الكبت السياسي والفكري لا يضر السياسين والمفكرين والمثقفين فحسب ، بل سيضرب في عنق النظام بعد أن يستفحل خطره ، " فالفكرة المكبوتة قنبلة موقوتة " ، لذلك لا بد من خطاب مدني يحافظ من خلال مفرداته على المشتركات الوطنية .
وإذا كان منهج الجدل والحوار قادرا على احتواء جميع الصراعات والاختلافات فإنه يجب علينا أن نتقيد بالأصول والقواعد الرئيسة التي تضبط هذا المسار:
ـ الأصل الأول: التجرد في طلب الحق، والحذر من التعصب ، وإظهار الغلبة والمجادلة بالباطل.
ـ الأصل الثاني: تحديد الهدف والقضية التي يدور حولها الجدل .
ـ الأصل الثالث: الاتفاق على أصل يرجع إليه، إذ ان الاختلاف في المنهج سيؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة.
ـ الأصل الرابع: عدم مناقشة الفروع قبل الاتفاق على الأصول .
أما إذا أردنا أن نؤسس لتفاهم جاد بين فرقائنا السياسيين فعلينا أن نهتدي بنفس القواعد المتبعة عالميا لمثل هذا الغرض ، والتي من ضمنها:
1ـ التركيز أولا على النقاط المشتركة وتحديد مواضع الاتفاق لأن ذلك يساعد على تقليل الفجوة، ويوثق الصلة بين الطرفين .
2ـ التدرج والبدء بالأهم ، فمعرفة الأهم والبدء به يختصر الطريق.
3ـ العدل والإنصاف ، كالتفريق بين الفكرة وقائلها ، وإبداء المحاورإعجابه بالأفكارالصحيحة
4ـ الإخلاص وصدق النية ، والكلمة الطيبة ،وحسن الاستماع ،والاحترام المتبادل.
5ـ الحلم والصبر، لأن " الحلم سلاح القوي "، " والصفح أبلغ من كظم الغيظ ".
6ـ التسليم بالخطأ والرجوع إلى الحق فالعاقل هو الذي يسلم بخطئه ، ويعود إلى الصواب إذا تبين له، ويفرح بظهوره .
7ـ عدم الأخذ بالمواقف المسبقة التي لا تقبل النقاش ولا تغيرها الحقائق الدامغة .