إن التباين الصارخ بين ما يقدم قادة المنتدى عن الوضع الاقتصادي للبلد، وما يمكن أن يلمسه المواطن في حياته اليومية بشكل مباشر، بات يشكل موضوعا محيرا بالنسبة للبعض الأمر الذي يستوجب محاولة إلقاء الضوء على هذه الثنائية التي تعصف بالأذهان والتي يوشك بسببها أن يصدق
من يسمع على ما يرى ويلمس، فإذا استثنينا الطموحات الكبيرة والمشروعة لهذا المواطن في تحسين أوضاعه، وسرعة تقبل الرأي المغالط بفعل تجذر أزمة انعدام الثقة في السياسات الحكومية بناء على تجارب سابقة، وتكريس المعلومات المزيفة في ذهن هذا المواطن لأغراض شخصية أقلها خلط الأوراق للحيلولة دون تمييز الصالح من الطالح، كما بدا واضحا من خلال ما نشر رئيس الحركة من أجل التغيير الديمقراطي موسى أفال، فإن الأمر لا يمكن أن يتجاوز في حقيقته محاولة لعب الورقة الأخيرة التي تحمل أملا باهتا في النجاح، فلن يخسر صاحب هذه الورقة مستقبلا أكثر مما خسر سابقا، وليربح على الأقل لحظات الأمل التي يمنح لنفسه، ويدرك قيمتها، الأمر الذي يتضح في صب كل جهوده لقتل هذا الأمل في نفس المواطن العادي.
ليس كل ما يلمع ذهبا..
إن إيهام هذا المواطن بأنه ينام على بحر من الموارد الطبيعية التي لا ينضب بعضها ـ وهذا صحيح في بعض جوانبه ـ يتجاهل حقيقة أخرى، أن الاستفادة من هذه الموارد يستدعى أن نمتلك رأس المال النقدي والبشري والتكنولوجي للاستفادة منها، وهذا ما لا يمكن أن يجادل أحد في أن بعض من يحمل لواء هذه الدعوى اليوم، قد ساهم بشكل أو بآخر في تضييع هذا المال من خلال المساهمة في نهبه أو السكوت على تبذيره، وتدمير المصادر البشرية من خلال رفض الاستثمار فيها وتزكية السياسات العرجاء التي اتبعت تجاهها.
إن باعت هذا الوهم اليوم في بلدنا كمن يجلس جائعا على كومة من الذهب، في صحراء الربع الخالي، ترى بم سيفيده هذا الذهب لإسكات جوعه؟
إن تحليل أسباب القلق وعدم الراحة التي يراد لمواطنينا أن يعيشوها بالرغم عنهم، من خلال الانطلاق من فرضيات غير مؤسسة، لا يمكن أن يغير في حقيقة نجاح الحكومة في التصدي لأزمة انهيار أسعار المواد الأولية المصدر الرئيسي لمداخيل البلد، والتي راهن البعض على أنها ستحقق حلم الرحيل، الذي سقط بفعل ضعف التجاوب الشعبي معه، خلال مراحل سابقة.
تهافت الفرضيات..
إننا يمكن أن نكتشف ببساطة مدى تهافت هذه الفرضيات من خلال الملاحظات التالية:
1ـ كيف لنا أن نصدق أن بلد سكانه يفتقرون، ومستوى دخله الوطني الإجمالي تضاعف ما بين 2008 و2015 حيث انتقل من 700 مليار إلى 1600، كما تضاعفت ميزانية الدولة بصورة شاملة، وكذلك تضاعفت ميزانية الاستثمار الممولة على الموارد الذاتية للدولة عدة مرات، ناهيك عن تضاعف الكتلة الأجرية للموظفين، وكذلك المداخيل الضريبة، والاكتتابات الهامة التي تم تحقيقها... وإذا لم نكن نصدق الأرقام فكيف لشعب يفتقر أن ينجز كل هذه البنى التحتية التي استخدمها أو شاهدها مواطن في إحدى زوايا هذا الوطن، ثم إن بناء وتشييد هذه البنى ألا يعني أن هنالك فرص شغل جديدة تم توفيرها، وتحريك للتجارة في البلد من مواد أولية تدخل في إنشاء هذه البنى ونقل وغير ذلك..
ثم إن الانتقال من التساؤل عن مصير الأموال المتحصل عليها من سنوات الوفرة قبل محاولة انكارها سابقا بادعاء تسييرها بشكل خاطئ يحمل في طياته تجاوز حقيقة أن ادخار أموال الطفرة ليوم العسرة كان خطأ اقتصاديا وهذا ما لا يمكن أن يصدقه أحد، إن الشجاعة تقتضى أن نعترف لهذه الحكومة بنجاعة سياستها الاقتصادية الرشيدة والتي مكنتها من العبور بسلام.
إن محاولة الإيحاء بأن الضغط الضريبي كان هو خيار الحكومة لمعالجة نقص المداخيل خلال الأزمة باقتطاعات لا تطاق من الفاعلين الاقتصاديين الآخرين يحتاج إلى إثبات بالأرقام أو الصفات حتى لا نقول أسماء رفعا للحرج، لكن ما يحيرني هنا كيف لهذه الاقتطاعات التي لا تطاق أن تستمر على مدى عدة سنوات دون أن يفلس أصحابها، أو تتراجع المداخيل الضريبة التي تسجل كل عام ارتفاعا جديد، إن المعلومة المغلوطة هنا والتي تم التلاعب بها، هي رفض سياسة فرض السلطة الضريبة للدولة، حيث أن مكافحة التهرب الضريبي بدأت تؤتى ثمارها من خلال توسيع الوعاء الضريبي دون زيادة تذكر في نسب هذه الضرائب خصوصا إذا ما قورنت بالمحيط الاقليمي والدولي، فبدلا من 200 مؤسسة كانت ضمن النظام الضريبي الحقيقي اليوم لدينا 3000 مؤسسة ضمن هذا النظام ، ومن 800 مؤسسة كانت تخضع لنظام الضريبة الجزافي اليوم لدينا 5000 مؤسسة تخضع لهذا النظام، وهذا ما يرفضه البعض دفاعا عن زمرته التي تريد تكريس فلسفة أن يدفع المدرس من راتبه الصغير ضريبة للمساهمة في تنمية البلد، وترفض للملياردير أن يدفع "دانقا" لنفس الهدف مالكم كيف تحكمون؟
أما الحديث عن منح هذه المداخيل للمحيط المباشر للسلطة لا يمكن أن يتجاوز إلقاء كلام على عواهنه، ونعتبره جزء من ضريبة الدفاع عن مصالح هذا الشعب الذي ظلم على مدى سنين ومستعدون لأن ندفع أكثر من هذا دون أن نحيد عن موقفنا.
2ـ إن ركوب موجة ارتفاع الأسعار يقفز على حقيقة مرة هي كيف لك أن تتحكم في سعر سلعة ينتجها وينقلها إليك الغير، وحتى ما يمكن أن تستخرجه من بحرك يتحكم الغير في سعر الآلات التي ستسخرجه بها، بدأ من سلك الصنارة ؟ إن من يريد أن يثير موضوع الأسعار بشكل موضوعي، عليه أن يتساءل ماذا قامت به الحكومة لضبط هذه الأسعار ؟
لقد زادت الحكومة رواتب الموظفين ما بين 30 إلى 50 %، كما وفرت الأسماك بأسعار زهيدة للمواطنين، وكذلك عمليات التوزيع المجاني للغذاء من حين لآخر، كما أن شركة سونمكس حاضرة للتدخل كلما دعت الضرورة لذلك، أما برنامج أمل فإليك الأسعار التي تباع بها بعض المواد الأساسية في حوانيته، كلغ الأرز 130 أوقية، المعجونات الغذائية 250 أوقية، السكر 200.. طبعا هذه الحوانيت قد لا تعني الكثير بالنسبة لكم ، لكنها تعني أكثر بالنسبة لغالبية هذا الشعب الذي أفقرته السياسات الحكومية السابقة.
التجريم بالولاء سيف من خشب..
3ـ بخصوص استخدام السلطة للإثراء الشخصي، يبقى الحديث هنا مفهوما من طرف من يدافع عن أثرياء مرحلة معينة، ويريد لأصحاب هذه الثروات تشكيل ناد مغلق يمنع على أي موريتاني أن يقترب منه، كما يمكن أن يفهم من طرف من تعود على مشاهدة تفويت الأملاك العامة لخواص في الظلام الدامس، ويصعب عليه أن يستساغ أن يتم الإعلان تحت ضوء قوي وكاشف وبشكل شفاف أمام كل الموريتانيين عن بيع هذه الأملاك بشكل يحترم المساطر والإجراءات القانونية، كنت سأحرج فعلا لو كشف لنا هذا التحليل الاقتصادي عن عملية بيع غير قانونية، لكن أن يكون العقار المعروض للبيع اشتراه فلان أو علان، فهذا ما لا أشاطر مدعيه الرأي، اعتقد أن من تحمل تفويت آلاف الهكتارات في نواكشوط، وبعض أكبر واهم الأملاك العمومية حينها، دون أن يعترض بالشكل الذي يعترض به اليوم على بيع مئات الأمتار، يشكل عدم أعمارها تشويها للوجه المعماري للمدينة، كان حريا به أن يثمن هذه التوجه، بدل أن يتباكى على عدم تمكين جهات معنية من الاستحواذ على هذه الأراضي بالطرق التي تم اعتيادها خلال فترة معنية.
أما موضوع صفقات التراضي فهو حمية لذات الجهات التي يعتبر البعض أن حقها باحتكار هذه الصفقات تم الاعتداء عليه، إن السلطة التقديرية التي منح المشرع في هذا النوع من الصفقات للسلطة التي تمنحها يفترض أن تبقى محفوظة ما لم يتم تخطي القانون، والمفاضلة بين الأشخاص على معايير ذاتية بالتأكيد هي آخر ما يمكن الطعن به في قانونية هذه الضفقات، إن السؤال الذي يقول لماذا تمنح هذه الصفقات لمقربين من السلطات يجعل نتساءل لماذا تمنح هذه الصفقات لمن يعارضها؟ وهل من يعارض سياسة اقتصادية معينة هو أفضل من يجب أن يمنح صفقة تنفيذها؟ إن التجريم بالقرابة أو الولاء انكشف أنه سيف من خشب لا يرهب أحدا.
رغم أني أتمنى أن يزداد ثراء الأثرياء، لكن أفرح أكثر كلما علمت أن هذه الدائرة تتسع ويزداد عدد هؤلاء الأثرياء بأي كان، ويحز في نفسي أن تبقى الثروة محتكرة على مجموعة بعينها كما يريد لنا البعض.
إن من يريد أن يحاكي الغير في استشرافه للمستقبل، وقدرته الفذة على إدراك المنعرجات التاريخية الخطيرة التي تمر بها الأمة، يجب عليه أن يدرك أنه يرتقى مرتقا صعبا، وأنه مدعو للتحرر من اكراهات التحالفات السياسية ذات الأهداف الصغيرة، وأن ينطلق في تحليله من وقائع ثابتة، لا ترجيحات تلقى صدى في نفسه؛ تم تطويعها للحصول على النتائج التي تم وضعها قبل البدء في التحليل، من قبيل السؤال، لما ذا لقي هذا التدخل كل هذا القبول والاستحسان من طرف شعب بأكمله؟ فما كل صدى بالضرورة يعنى القبول والاستحسان، تماما كما يشكل مقالي اليوم رفضا لكل محاولات تزييف الوعي.