يحتفظ العراقيون – رغم مآسيهم الكثيرة – بمساحة للطرافة في قلوبهم الطيبة وأحاديثهم الهادئة، ويتذكرون خطب رئيسهم السابق عبد السلام عارف الخالدة، فقد كان الرجل لا يجد فرصة للخروج عن لباقة الحديث أكثر مناسبة من مخاطبة الجماهير.
وتحتفظ دفتر الطرائف العراقية للرجل بمقطع من خطبة عصماء حدد فيها هوية العراق بقوله ": لا حاكم ولا محكوم، لا شرقية ولا غربية ولا شمالية ولا جنوبية لا أحزاب، لا كتل، امة واحدة، وحزب واحد.لا جنوبية ..لا جوني ولا جون، وانما حمد وحمود" .. وكان رحمه الله مولعا بالسجع في خطبه، حيث صرخ مرة في أهل الرمادي قائلا : يا أهل الرمادي ...يا من ذررتم الرماد في عيون الأعادي" وضحك أهل الرمادي وأضافوا ذلك التعبير السمج إلى مثيلاته من خطب الرئيس العارف. **** وجدت كثيرا من التشابه بين خطب عبد السلام عارف، وحديث الرئيس محمد ولد عبد العزيز في نواذيبو.. فقد كان الخطاب مزيجا من الفكاهة والحماسة، وخليطا من التربية والسياسة، كان أشبه بسلة المتسول فيها من كل شيئ لون ..وأغلبه ما لا يليق بأصحاب الفخامة. ولقد خشيت على الرئيس وهو يطالب الجماهير بالصمت، والانتظار أن يقلد عبد الرحمن عارف فيرميهم بحذائه أو بحجر، كما فعل عارف مع الجندي الذي أزعجه بالتصفيق له عند كل فقرة.. فنزل عن منصته ورماه بحجر. وإذا ذكر الرئيس ابن عبد العزيز الناس بعبد السلام عارف، فلهو على تذكيرهم بالرئيس السابق معاوية ولد سيدي أحمد الطايع، أقدر فلقد كانت تتشابه السحنات، بعد أن تشابهت الخطب، وتوحد الارتباك، فعندما ارتفعت لافتات مناوئة لعدد من سياسات الحكومة – والحكومة أضعف أن تلتفت يمينا أو شمالا دون إذن الرئيس – اشتد غضب فخامته وطالب بإنزال الشعارات حتى لا يتضاعف الارتباك الذي بدأ بإلغاء كلمة العمدة.. والانطلاق مباشرة في سيل عرم من الاتهامات والتهديد والوعود. وأكثر من ذلك فإن في خطاب الرئيس المشبته، بعض الشبه والتقارب مع خطب سائرة للعقيد القذافي، وخصوصا عندما يوغل في الغموض، ويقول : أنا رئيس الجمهورية ..ليس عندي ما أعطيه ولا ما أمسكه، وفي صرخاته المتتالية .. إلى الأمام ..إلى الأمام. وفي مواعظه شبه أيضا بالرئيس اليمني المخلوع على عبد الله صالح، عندما يذكر بالدين الساري في الدم .. ويحذر الآخر نساء اليمن من الاختلاط. ثم توالت السقطات، ويسخر الرئيس من الجميع، ثم يمدح نفسه لا أكثر، ولعل الرجل لم يكن موفقا عندما حشر نفسه في موقف الدفاع، مستعرضا مما تتهمه المعارضة به ثلاثا وعشرين عيبا، وقديما قيل كفى المرأ نبلا أن تعد معايبه، على أن سعي الرئيس إلى الرد على 23 مأخذا فقط من تلك المآخذ يؤكد أنه سمع الأكثر ولكن هذه الأكثر وقرا في أذنه. كان خطاب الرئيس بالجملة خطابا طفوليا، تحس فيه أن حركة الكلمات غير موفقة، وأن الرجل يسعى للفكرة فيعبر عن غيرها..و كان في حديثه عن اللحية شيئ من السماجة.. لم يراع شعور مستقبليه ...وخصوصا رئيس اتحاد الأئمة ذا اللحية الكثة ولا وزير الشؤون الإسلامية ذا العارضين الخفيفين ولا عددا كبيرا من أنصاره ورموز أغلبيته. ثم إن اللحية – بغض النظر عن الرؤية الدينية حولها – مظهر عاد لا يجلب الكذب، كما أن حلقها أو المرودة أصلا لا يجلب الصدق، وإذا كان قول ما ليس دقيقا- يسهم في طول اللحية، فإن فخامته سيستحق قريبا الجنسية الباكستانية، بل قد يحمل لقب صاحب أطول لحية في البلاد، ولعل الحل في أحد أمرين أن يأمر فخامته الناس بحلق لحاهم، فلا يبقى كاذب ولا صادق، أو أن يطيل لحيته، وهنالك سيحصل مستوى من المساواة، ويردد الناس وهو يرون لحية فخامته : اللهم صل على سيدنا محمد صاحب الصدق. ثم أن صدور السخرية، من الرئيس منقصة، وإذا كان ولد عبد العزيز قد نسى الحكمة الخالدة التي تقول بحرمة الجمع بين الإمارة والتجارة، فلعله أيضا لم يسمع أيضا كراهة الجميع بين السماجة والرئاسة. وتتوالي الكلمات التائهة في خطاب الرئيس ومنها حديثه عن الأئمة الذين أثاروا شعوره وحماسته، بشأن الجامعة الإسلامية، فاستجاب لهم، وقضى مآربهم، وقد كان على الرئيس وهو " الحماسي مثار الشعور " أن يحمي زملاءه الذين قتلوا وهو الشاهد على ذلك كما قال في شهادة مسموعة مسجلة أمام الآلاف من سكان نواذيبو ..أم أن للحماسة وثوران الشعور حدودا لا يتجاوزها ومجالا لا يعدوه، ..هل سيقدم فخامته أولئك الذين قتلوا زملاءه للعدالة ..على كل حال فإن الرئيس يستحق الشكر على الطريقة التقليدية للإذاعة الوطنية : مشكور اعل حماستك وحبك للوطن. وفي متتالية أخرى من أفكاره المسروقة يعيد الرئيس كل أسباب حملة المعارضة ضده إلى أن قادتها لم يكونوا يدفعون فواتير الماء والكهرباء، وفي الأمر مستوى كبير من الغرابة، والتبسيط المخل، وكأن كل دعاوى المعارضة ستسقط بمجرد اصطفاف قادتها أمام إحدى شبابيك سوملك لقضاء الديون، إن في الأمر لمغالطة كبيرة. كان على الرئيس أن يقول – وسيكون صادقا وبدون لحية أيضا – لقد أرغمتهم جميعا على أن يدفعوا فواتير الماء والكهرباء والهاتف- وبقيت أنا ..لا أدفع فاتورة أي شيئ من ذلك أليس الرئيس " محمول النفقة" .. وكان عليه أن يقول – ضمن ما نسي – يا أهل نواذيبو : لا تتذكروا بوعودي هذه وعود رئيسكم السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله يوم حمل وزراءه إليكم، وتعهد بتحويل نواذيبو إلى قطب تنموي ومنطقة تجارة حرة، وأعلن عن ميزانية ضخمة ستنالها أيديكم، وستكون مما يسيره الوالي.. لا تتذكروا شيئا من ذلك وإن جددت لكم بالوعيد خطاه، فقد يقع "الشاعر" على الشاعر كما يقع الحافر على الحافر... وكان الأولى به أن يقول : وقد غلبه الشوق إلى نواذيبو ..ولا تتذكروا أيضا أن وعودي لكم اليوم بإقامة مركب رياضي ودار للثقافة، كان جزء من برنامجي الانتخابي قبل سنتين ونصف . لا تذكروا شيئا من ذلك، ولكن اهتبلوا الفرصة الآن.. ولكم الساعة التي أنتم فيها.
براءة اختراع أغرب ما في خطابه العجيب ادعاءه – وفقه الله - سرقة أفكاره من قبل المعارضة ، ولكن الأغرب أكثر أن يدعي شخص ما ملكيته لفكرة شائعة ذائعة متضمنة في كل برنامج للتعليم، إن ادعاء من هذا القبيل بالغ السخافة، أترى الناس يصدقون لو ادعى فقيه اليوم بأنه أول من قال باشتراط تكبيرة الإحرام بالصلاة، أو ادعى ميكانيكي بأنه هو أول من اكتشف أن السيارة لن تسير بدون بنزين.. إن الأمر يتعلق بإساءة بالغة وجهها الرئيس إلى نفسه، وقديما قيل من ألف في غير فنه أتى بالعجائب. ولو أن فخامة الرئيس وهو المهندس البارع الداعي إلى ثقافة عصرية، بحث في غوغل عن " فكرته المسروقة لتلك" لوجد أكثر من 1750000 عنوان في نفس الموضوع، ترى من يسرق الأفكار.. بل من يسرق أصلا.
لا جفاف - وفي خطبته العصماء، ينفى الرئيس أن يكون البلد على شفا جفاف ماحق، وكأن الرئيس - الأمرد الذي لا يكذب - يريد أن يكذب وزراءه، وهو يستشهدهم عند كل ما يشعر بأنه بحاجة إلى شهيد يؤكد ما يعد به- على طريقة " اشهدي لي يا دراعتي"... وقبل أيام خرج كل وزير من الحكومة يعلن للناس عن برنامج أمل 2012 الذي سيمكن من تجاوز " الـأزمة الحالية، والجفاف الذي يخيم على البلاد" وقبل ذلك كان الرئيس نفسه قد استدعى الولاة إلى قصره ليناقش معهم استياء الناس من برنامج أمله.. ترى هل نسي الرئيس، أم تناسى، أم أن رئيه من الجن أخبره أن الأمطار التي وعد بها قبل نصف عام، ملأت الأرض زرعا وخضرا... لك الله من رئيس لا يخرج من تناقض حتى يدخل في آخر ولا ينهض من كبوة التعبير حتى تتلقفه حفرة أخرى من حفره. على كل حال الله ..الله أعلم .. وربما كان الرئيس صادقا بالفعل في أن البلد لايواجه أي جفاف ولذلك استلمت الرئاسة مبلغ 10 ملايين دولار منحة من دولة قطر ..ولم تستلمها وزارة الخارجية ولا الشؤون الاقتصادية،فربما يكون الجفاف في القصر..
الثورة والعجائز كان على رئيس الفقراء - لو أنصف - أن يقول : وكما ساويت الناس في الفقر، فرددت الغني إلى قاع الفقر وأهلكت حرث الفقير أصلا ونسله، فقد جمعتكم اليوم في شأن الثورة، فمنكم العجوز ومنكم الشاب، وليس للرئيس أن يستغرب ثورة الناس عليه، ولكن الغريب بالفعل أن يستعير فخامته كلمة سوقية جدا من بيان حزبه الحاكم، ويرددها أكثر من سبع مرات في خطابه الجماهيري .. فتلك سيئة أخرى لا تليق بصاحب الفخامة.. خصوصا أنه صانع للأفكار والتعابير .. وإن كان غير قادر على حمايتها من السرقة. على أن من المهم جدا الاعتراف للرئيس بجانب كبير من الطرافة والملاَّح... وربما " ازوين والشعرة" ..في خطابه.. فقد كان في عبارة "الثوار العجزة".. بعض من الترويح...أسهم في الحد من تشويش الجماهير التي كانت تزعجه المرة بعد المرة، فيدعوها إلى الهدوء ..وتتفاعل بشكل عابث مع كلماته.. فتجيبه عزيز .عزيز.. عندما يهتف ... "النظام يسعى إلى مصلحتكم.." .. لكنها أيضا هتفت عزيز ..عزيز.. عندما سأل من كان يسرق المال العمومي ...ربما هو أمر غير مقصود ..لكنه حصل.. وربما هي الصدفة...وربما صدفة خير من موعد كما يقال**** يقول الناس قديما في الاعتذار عمن زلت به قدم التعبير إن فلانا " خانته العبارة" .. لكن الغريب بالفعل أن العبارة لم تساعد فخامته ولا مرة واحدة، ورغم ذلك يستحق الرجل الإشادة بالحضور المسرحي الناجح، وبمواكبته للتعابير والأفكار التائهة المتناقضة بحركات وإشارات متعددة، تنتزع من السامع عند الحديث عن الإنجازات إعادة النظر إلى "ذقن" الرئيس ... وعند الحديث عن الوعود قول اليمامة .."انظري إلى يديه" ... وعند تصنع الفكاهة والطرافة...عبارة ..يوكي حت فخامة الرئيس.. يوكي حت