المواطن العربي السوري فريد حسن، هو أستاذ وفنان قدم إلى موريتانيا سبعينات القرن الماضي لمهمة تدريس في إطار إعارة من الدولة السورية كغيره من المدرسين الذين أرسلتهم بلدان عربية أخرى لموريتانيا، خاصة البلدان ذات التوجه القومي التقدمي ـ سوريا، العراق، مصر، ليبيا والجزائر ـ دعما لمسارها التعليمي،
وإكمالا للنقص الذي كانت تعانيه في مدرسي العلوم الحديثة مع بداية انتهاج البلاد لسياسة التعريب الجزئي.
ونتيجة لخبرة الأستاذ فريد الموسيقية كدارس لها، إلى جانب تخصصه في علم الاجتماع الذي قدم لتدريسه خصيصا، ولأن كل إناء بالذي فيه يرشح، فقد جذبه الاختلاط بالوسط الفني الموريتاني آنذاك وحاول، رغم مشاغله التدريسية ورغم خصوصية الموسيقي الموريتانية واختلافها في كثير من جوانبها وآلاتها عن الموسيقى الشرقية، حاول دراستها واكتشافها وإدخال الألحان إليها بالمعنى القواعدي الأصولي الحديث، ولحن لمطربين موريتانيين، أو على الأصح مطربات من ذلك الجيل كالراحلتين " ديمي بنت آبه " و" محجوبة بنت الميداح " وأختها " أبتي بنت أشويخ " أغان لا نقول إنها بكل ذلك الجمال والإبداع.. إلا أنها في زمانها، أو عندما تستمع إليها اليوم، رغم الزمن الذي مر عليها، تحس فيها " جدية فنية " وجديدا تفاعل معه الجمهور والمطربون أنفسهم آنذاك.
زار الأستاذ فريد موريتانيا مؤخرا متتبعا ذكرياته وعلاقاته بها أيام مهمته التدريسية بها، وقام خلال هذه الزيارة بعدة أنشطة ولقاءات تلفزيونية كان آخرها استضافته في مهرجان المدن القديمة، وتم توشيحه من طرف وزارة الثقافة. وكعادتنا نحن زج به بعضنا في صراعه السياسي والنقابي المحلي من حيث لا يدري، وهو الذي صرح بأن لا دخل ولا علاقة له بالسياسة وشؤونها، فأحرجوه و" أدخلوه لعظام " من الاهتمام بشخصية إعلامية أدبية عربية أخرى هي المواطن البحريني ـ العراقي محمد العرب الذي جاء لموريتانيا مؤخرا مستكشفا ساحتها الإعلامية والأدبية والثقافية، عارضا ما يمكنه تقديمه في هذه المجالات، ودون دعوة من أية جهة بادئ الأمر، حيث قدم كصحفي لتغطية أعمال مؤتمر قمة نواكشوط العربية، بينما قدم الأستاذ فريد حسن، كما قلنا، متتبعا ومستعيدا لذكريات له هنا فحسب وبدعوة وترتيبات من أصدقاء له، ولا تنافس ولا تعارض بين أدوار الرجلين..
وإذا كان الأستاذ فريد قد لاحظ تقصيرا في حقه، أو " تجاهلا " لقدومه ووجوده في البلاد، فقد كان عليه أن يرده في المقام الأول إلى أن جيل الفنانين والإعلاميين الذين عاصرهم وأختلط بهم في حقبة السبعينات، لم يعودوا موجودين على الساحة بالشكل الذي تركهم عليه، حيث غيب الموت بعضهم وانزوى التقاعد والاعتزال بالبعض الآخر وحل محلهم جيل آخر، كما غاب هو كذلك وانقطع عن البلاد طويلا.. لكن بمجرد أن علم من بقي من ذلك الجيل على قيد الحياة بوجوده انهالت عليه الاتصالات والدعوات. وعموما فقد كان هذا " كلاما اعتراضيا " ليس هو هدفنا من الحديث عن هذا الفنان الذي كانت له بصمة في ساحتنا الفنية لو كان تابعها لكان تغير الكثير في هذه الساحة إلى الأحسن، ونعود لتساؤلنا، أو أملنا، في استئنافه لمشواره الفني الذي بدأه في بلادنا قبل عقود من الآن.
حيث تشهد ساحتنا الفنية اليوم حالة من الركود والهبوط والتصحر والفوضى، لا أقول إنها غير مسبوقة لأن هذه الساحة لم تشهد في تاريخها نهضة أو ازدهارا، بالمعنى الذي أقصده، يمكننا أن نتخذه مرجعا نقيس عليه وضعيتها الحالية، فقد كان هناك في الماضي موسيقيون يتقنون أصول الموسيقى الموريتانية التقليدية بمقاماتها وسلالمها و" أشوارها "، كما كانت هناك أصوات جميلة ذاع صيتها محليا، واليوم لا يزال هناك بعض أولائك الموسيقيين العارفين بالموسيقى التقليدية كما برزت أصوات أخرى جميلة، لكن ذلك كله لا يزال في طابعه الفولكلوري التقليدي الخام القائم على تكرار كل جليل فني لما كان يقدمه الجيل الذي سبقه بنفس الكلمات واللحن والأداء، حيث غنى أجداد هؤلاء الفنانين لأجدادنا ( ول أعمر ول أعلي ) و ( مشو لمعيط شور الشوف ) و ( يا مولانا غنم العراد ) فقالوا " هح "، وغناها آباؤهم لآبائنا فقالوا " أسكي ".. فإلى متى وأين الجديد كلمات وألحانا وأداء؟!
لكل مجتمع فولوكلوره المميز الذي له مكانته المحفوظة يُمارس في الأوساط الشعبية وفي المناسبات المختلفة كجزء من التراث، لكن الفن أيضا يتطور ليتميز عن الفولكلور عن طريق الكلمات الغنائية المنتقاة والألحان المضبوطة والأدوات الموسيقية المتمايزة التي لكل منها صوت ودور مشكلة هي والكلمات واللحن " لوحة طربية "، ولا بد لاكتمال تلك اللوحة من انتقاء الكلمات، واللحن المناسب، والصوت الجميل والقدرات الأدائية، ولذلك نجند نجوم الطرب العربي مثلا يمضون سنوات في إعداد ألبوماتهم الغنائية، وتسمع أن أحدهم سيصدر ألبومه بعد سنتين أو ثلاث.. لا لأنه عاجز عن تسجيل أغنية كل ليلة، ولكنه يريد أن لا تصدر أعماله الفنية إلا بعد الكثير من التدقيق والمراجعة والتمحيص والعرض على أصحاب الأذواق، بينما العكس هو الحاصل في ساحتنا الفنية حيث يصدر أحد الفنانين أغنية في الصباح على أساس كلمات عرضية مرتجلة في جلسة شاي لليلة البارحة، والأغرب من ذلك أن الساحة الفنية الوحيدة التي تجد فيها فنانا يغني أغنية ويقول لك هذه الأغنية من كلماتي وألحاني وعزفي وأدائي! بينما المتعارف عليه هو أن الأغنية عمل فني مشترك لصحاب الكلمات فيه دور وكذلك الملحن والمطرب والعازفين..
هذا بالإضافة لغرائب أخرى كلها تنم عن " تلقائية " وازدراء بالأذواق وجهل بالأصول متجذر في هذه الساحة، فالأرشيف القريب للتلفزيون الوطني مثلا لا يزال يحتفظ ب / ويبث سهرة غنائية مع إحدى الفنانات وهي تقول إنها ستبدأ السهرة بمديحية، ذلك لأن " أول ما خُلق في الكون هو النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم خُلق الملائكة ثم نزل القرآن " كما تقول!! دون أن يتصرف مقدم البرنامج للتصحيح لها أو حذف هذه الجهالة غير اللائقة!
فنانة أخرى شاركت مؤخرا في مهرجان فني إقليمي، وغنت فيه أغنية بها كلمات " سياسية حربية " بعيدة كل البعد عن مجال الفن والطرب من قبيل " الفيتو " و " حلف النيتو "، في حين أنه لو كان لها مستشار فني لنبهها إلى عدم ملاءمة هذه المصطلحات للاستخدام في هذا المقام، بل كان بإمكانها أن تطلب من أحد الشعراء المحليين أن ينظم لها كلمات غنائية بديلة مناسبة! وتشاهدون أيضا سهرات فنية يتم بثها على الفضائيات المحلية، وأحد أعضاء فرقها الموسيقية يضرب بنعليه على صحن ليصبح النعل، برمزيته الوضيعة، أحد الأدوات الموسيقية الحاضرة في مثل هذه السهرات! في حين أنه كان يمكن استخدام قطع خشبية أو حديدية أو نحاسية تلبي الغرض ولا تكلف شيئا بدل استخدام النعل!
حاولنا في السابق تنظيم برامج ومسابقات فنية لتمكين أصحاب المواهب والأصوات الجميلة والقدرات الفنية من إبراز قدراتهم، وكونا لذلك لجانا للتقييم والتحكيم، لكنها كانت لجانا مائعة مجاملة تتحكم فيها الخلفيات القبلية والجهوية، وهذه هي إحدى مصائب ساحتنا الفنية، أنها مكونة تقليديا من أسر فنية يرتبط كل منها بقبيلة وجهة، بحيث لا تستطيع إبداء رأيك النقدي الموضوعي لصوت أو قدرات فنان إلا و" طحت فاخلاك " جهة أو قبيلة، والظاهرة تجر طرفها على الساحة الأدبية والثقافية أيضا! فتبادل الفنانون الشباب المشاركون في تلك المسابقات على تأدية أدوارهم وطبيعي، ككل مسابقة، أن يكون من بين هؤلاء المتسابقين من لا يمتلك لا صوتا ولا موهبة ولا قدرات، بل أن لا شيء فيما يقدمه يوحي بأن له مستقبلا فنيا، ومع ذلك لم يقف أي منهم على الخشبة ويؤدي دوره إلا وانهالت عليه عبارات المجاملة والإطراء من لجنة التحكيم، ما قلته لم يقل أحد مثله قبلك ولا يمكن لأحد أن يقول مثله بعدك ولا غرو، فأبوك فلان وأمك فلانة، وكأن الصوت والموهبة والقدرات الفنية ملمس شعر أو لون عينين ينقله الآباء إلى الأبناء وراثيا..! بينما الحقيقة ليست كذلك، فما أكثر " الخائبين " من أبناء المشاهير، وما أكثر المشاهير من أبناء " الخائبين " وفي كل المجالات!
استبشرنا أيضا بظهور القنوات الفضائية المستقلة مؤخرا في أن تمتلك هامشا أكبر من التعامل الموضوعي والنقدي المتجرد مع الوسط الفني على أساس مواهب وأصوات وقدرات المطربين، بحيث تكون منابر نقدية موضوعية تواجه من تستضيفهم من الفنانين بحقائقه وتضعه على المحك.. لكننا وجدنا أن هذه الفضائيات لم تختلف في شيء عما كان التلفزيون الرسمي يتعامل به مع كل الفنانين، مجاملات وإطراء وتمايل طربا مما لا طرب فيه غالبا!
3 إلى 4 على أكثر تقدير من فنانينا يمتلكون أصواتا ومواهب وقدرات فنية تؤهلهم لمستقبل فني، أما البقية فلا تمارس سوى الرغاء والصياح والصهيل، و يا سماء اسقطي على الأرض و" يا قيامة قيمي "! وهذا ما نحتاج فيه لطرف آخر خارجي متحرر من عقلياتنا وحساسيتنا يُغربل لنا هذه الساحة لفصل تبرها عن ترابها، ويقول لكل من لا يمتلك المؤهلات الفنية أما أنت فاسكت.. وليكن هذا الطرف الأستاذ فريد حسن أو غيره، فنحن لا نضع الأصبع على أحد بعينه إنما المهم أن يكون فنانا من خارج الوسط الفني المحلي، فكما تعلمون نحن نعرف ببلاد المليون شاعر، لكن الكثيرين من شعراء شاركوا في العديد من المهرجانات والمناسبات الشعرية العربية فقيل لهم ما تقولونه كلاما منظوما لكنه ليس شعرا، فالشعراء بمعنى الشعر من بين هذا المليون هما شاعران أو ثلاث فحسب، لكن لا أحد منا يستطيع قول ذلك إلا على " ظهور الخيل.."!
سيكون أيضا في غربلة ساحتنا الفنية على أساس المؤهلات والأصوات خدمة كبيرة لشريحة الفنانين الموريتانيين، حيث أن هناك مسلمة لدى هذه الشريحة تعيق اندماجها في المجتمع بشكل كبير، وهي أنها لا تهتم كثيرا بتدريس أبنائها ومواصلتهم لمشوارهم التعليمي لأنهم، في نظرها وعقليتها، أبناء مطربين وسيعتمدون في معاشهم وحياتهم مستقبلا على ممارسة الفن.. ولذلك يعد على الأصابع من ترقوا في مراحل التعليم من أبناء هذه الشريحة، ويتضاءل تواجدهم حد الغياب أحيانا في مجالات الحياة الأخرى سواء كان في التجارة أو الأعمال الحرة، أو الإدارة والجيش والأمن أو غير ذلك من الوظائف وطرق الكسب والعيش! كما أنه من الصعب على غير المثقف المتعلم، بما في ذلك الفنان، أن يتألق ويُبدع..
في ظل هذه الفوضى واختلاط الغث بالسمين أيضا ظلم كبير لأصحاب المواهب والقدرات الفنية من طرف من لا يمتلكها، وعدم قدرة الدولة أو القطاع الخاص على دعم من لهم مستقبل ويمتلكون مؤهلات من الفنانين ليثبتوا جدارتهم محليا، بل ويرتقوا بالموسيقى والفن إلى فضاءات أخرى عربية وعالمية وإخراجهما، أي الموسيقى والفن، من الانغلاق والرتابة بحجة الخصوصية الموسيقية والمحافظة عليها! ولنفترض مثلا أن وزارة الثقافة منحت من لا يمتلكون المؤهلات من الفنانين مئات الملايين، فما الذي سيفعلونه بها؟ سيقتنون السيارات الفارهة وأساور وسلال الذهب، وسيبنون فيلات ويؤثثونها ويسجلون لنا نفس الأغاني التي غناها آباؤهم ولا جديد غير الأرائك والزرابي! بينما قد يفيد نفس الدعم أصحاب القدرات الفنية في التعامل مع ملحنين، وتشكيل فرق موسيقية، وتسجيل وتوزيع أغاني جديدة.. لكن لابد قبل ذلك من تحديد من يستحق مما لا يستحق وهو ما عجزت عنه الوزارة بفعل فوضى الساحة.
هذا كان حجرا رميته في مياه ساحتنا الموسيقية والفنية الراكدة ليقيني أن لا أحد سيقوم بذلك في ظل العقليات والحساسيات التي لا تكبل مجالنا الموسيقى والفني فحسب، بل يطال ذلك مجالاتنا الأدبية والثقافية بل والإعلامية أيضا.. وإن كنا جاهرنا بالمطالبات بضرورة وحتمية تحديد من هو الصحفي، إلا أننا ما زلنا حذرين أو " خائفين " من المطالبات بتحديد من هو الشاعر ومن هو الأديب ومن هو المطرب.. ولن نحدد ذلك إلا إذا خففنا على الأقل، إذا كنا غير قادرين على الإقلاع عن التوزيع المجاني لألقاب من قبيل الشاعر أو المطرب الكبير واللامع والشهير والمقتدر والعظيم.. هذا الشاعر أو المطرب الذي يكون أحيانا لا زال في الخامسة عشر أو العشرين من عمره، أو في الستين والسبعين منه لكننا لم نسمع عنه أو نراه قبل جلوسه في الاستديو! وبالتأكيد هناك شعراء ومطربون موريتانيون كبار ولكنهم محدودون كغيرهم في كل ساحة فنية أو أدبية، ولو كنت واحدا منهم لاعتذرت عن هذه الألقاب التي لا معنى لها مادام سيأخذها كل من سيجلس على مقعدي في سهرة أو برنامج فني أو أدبي في طابور على العظمة والشهرة والاقتدار لا " سلالم " ولا أول له ولا آخر..!
فإذا كان الأستاذ فريد يفكر في العودة إلى موريتانيا واستئناف مشواره الفني بها، فإننا نرحب ولكن بشرط أن لا يكون ذلك الاستئناف على طريقة ما سمعناه يتحدث عنه في لقاءاته اليوم، كطلبه من الشاعر الفلاني أن ينظم له أبياتا فينظمها له في خمس دقائق، وبعد خمس دقائق أخرى يكون اللحن جاهزا والأغنية على الأثير لأن ذلك " هو الجايين من شورو " وساحتنا الفنية تعج به ولم يتقدم بها قيد أنملة، أي الأغنية المرتجلة كلمات ولحنا وأداءا..! فالأعمال الكبيرة لا بد لها من إعداد وتأن وانتقاء وحذف وإضافة.. كما أن عليه التعاون مع الموسيقيين المحليين الشباب الذين لهم تجارب تلحين مقبولة وعلى أصول موسيقية علمية، وأن يبحث عن أصحاب المواهب والأصوات والقدرات الفنية ليستلهُمْ من هذا " الوسط الرتيب "، وأن لا يتعامل فنيا إلا مع أصحاب المؤهلات كحال كبار الملحيين الذين لا يقدمون ألحانهم عادة إلا لمن هم على ثقته بقدراتهم من المطربين.
وفي الأخير فإننا لم نتحدث عن مكانة ودور الفنون الجميلة، والموسيقى أحدها، في وجدان وفي حياة ورقي المجتمعات لأننا لا نعتقد أن هناك من يجهل لذلك..