توطئة
ألاحظ باستغراب شديد أن النخبة الثقافية والسياسية في موريتانيا تعاني من خلط مريع في المفاهيم حد الالتباس وعدم وضوح الرؤية ، فالغالبية التي تريد بموريتانيا خيرًا تتحدث عن النهضة والرقي والتقدم وكأنها تتحدث عن المدنية في أبسط تجلياتها ومقوماتها وسبلها الاجرائية!
العديد منهم يتألم لواقع التخلف الذي ترزح تحته بلدنا ويتحسر علي فرص التنموية المهدورة من قبل ولاة الأمر الذين تعاقبوا علي حكم البلد منذ الاستقلال وحتى الآن! والبعض منهم يغالي في جلد الذات دون أن يقدم البديل التنموي أو الفكري أو السياسي أوحتى الاجتماعي!.
ويصل التسطيح والابتسار ببعض من هذه النخبة الفاقدة لبوصلة التوجيه حد تصور أن مشكلة موريتانيا راهناً تنحصر في اشكالات سياسية بحتة أوالآلية التي يدار بها الشأن العام دون غيرها من العوامل الذاتية!
من أكثر المفاهيم تداخلا في ذهنية وعقلية النخبة الموريتانية مفهومي النهضة والمدنية، ولا زلت أجد صعوبة بالغة في توضيح الفرق بينهما والاشتراط التاريخي اللازم لإنتقال المجتمع والدولة من المدنية الي النهضة.
الكل يعي اننا كدولة وشعب ونخبة نعاني من التخلف المريع وأن الوضع متردي علي كافة الصعد،مع وجود حالات الترقيع والتحسين الراهنة التي لاتخطئها العين إلا أن ثلاثي التخلف(الجهل والمرض والفقر) لازال السمة الغالبة لمجتمعنا، ومع وعي الغالبية بالمأزق الوجودي والإشكال الحضاري لوجودنا كشعب ودولة إلا أن بوصلة التوجيه مفقودة لدي معظم النخبة الثقافية والسياسية والمالية والعلمية عندنا نظرا لتداخل المفاهيم وعدم إدراك لمتطلبات بناء الدول والكيانات العامة، وتجاهل هذه النخبة – لجهل او عدم إدراك- لبني وأنساق التفكير الاستراتيجي التي أضحت ديدن النخبة والمعنيين بالشأن العام في بقية بلدان العالم،مما شل من فعالية هذه النخبة وجعل الحصاد هزيلا وباهتا لا أثر له في واقع الناس.
*****************************
دون الدخول في مهاترات كلامية وإستعراض فج للعضلات الثقافية كما إعتادت النخبة عندنا وذلك عبر الاغراق في تأصيل معرفي نخبوي يخرج الموضوع عن سياقاته الموضوعية والإجرائية من خلال التركيز علي الشق الاصطلاحي والأكاديمي لهذه المفاهيم والهوس بالاستشهاد بالمتون وأمهات الكتب للإفصاح عن زاد معرفي موسوعي يشي بسعة إطلاع صاحبه، فإنني سأحرص هنا علي الولوج رأسا الي الموضوع لأن الامر لم يعد يحتمل التأخير او المماطلة أو التجاهل عندما يكون مصير الوطن علي المحك.
*****************************
الانتقال من البداوة الي المدنية
جميع مجتمعات ودول العالم من حولنا مرت بمرحلة البداوة – التي كنا ولازلنا فيها- لكنها إنتقلت أولا الي مرحلة المدنية التي تعني وببساطة متناهية الانتقال من حياة الانتجاع والتنقل وراء الكلأ والمرعي الي حياة الاستقرار في مدن صغيرة يكبر بعضها مع الوقت ليغدو مدنا كبيرة مليونية ( كوزموبوليتان)،هذا الانتقال تتولد معه ممارسات وتقاليد وأعراف جديدة تنظم الحياة في المدينة ذات التعقيدات الشديدة وتتراكم خبرات سلوكية تتوارثها الاجيال تحسن الحياة في المدينة وتأتي هذه السلوكيات في الغالب تلبية لمتطلبات معيشية وحياتية في المدينة وتظل هذه السلوكيات والممارسات تتجدد بتجدد متطلبات وتتعقد مع تعقيدات حياة المدينة. وخلال الثلاثة آلاف سنة الاخيرة من عمر الحضارة الانسانية كانت ولازالت النخبة – مع تغير طبيعة وماهية هذه النخبة في كل حقبة وعصر – كانت هي الموجه والبارومتر والبوصلة التي تجذر هذه السلوكيات و تعمل علي مأسستها وجعلها جزء من الحياة العامة والخاصة.وقد ضمن الباحثون وعلماء الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس السلوكي هذه السلوكيات والممارسات التي تتولد في المدينة لتنظيم الحياة بها في القواسم المشتركة الكونية (Global Commonalities)،حيث تتقاطع وتتشاطرها كل المجتمعات الاهلية والمحلية في كل مدينة وقرية في العالم.
وتفاوتت الدول والمجتمعات في الانتقال من مرحلة البداوة الي المدينة حيث عرفت معظمها الانتقال التدريجي كما حصل منذ ثلاثة آلاف سنة في الصين واليابان وفي بلاد الرافدين وبلاد الشام واليمن والقرن الافريقي ودول حوض البحيرات والحواضر الشمالية لدول شمال افريقيا وفي آسيا الوسطي وفي بلاد فارس وبلاد ما بين النهرين وسلطنة عمان منذ الف سنة وفي أوروبا الشرقية منذ الفين وفي اوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية وشمال امريكا ومنطقة اوقيانوسيا في العصر الحديث (القرون الخمسة الاخيرة). وفي القرن العشرين عرفت بعض الدول الانتقال السريع المخطط له وفق آماد زمنية محددة سقفها الزمني عقود قليلة مثل ماليزيا وسنغافورة وكينيا ودول الخليج العربي.
عرفت موريتانيا جزء من التخطيط التدريجي العام للانتقال من مرحلة البداوة الي مرحلة المدينة منذ الاستقلال الداخلي(1957) ولمدة عقدين من الزمن لكن بوتيرة متباطئة يرجعها الباحثون الي شح الامكانيات وقلة الخبرات المحلية الموريتانية التي تدير المرحلة مما استدعي مركزية شديدة التكثيف منذ تلك الحقبة لازالت تطبع الحياة العامة عندنا حتي الآن!
راكمت البشرية تراث باذخ الثراء من السلوكيات والممارسات لمعالجة ومواجهة استحقاقات العيش المشترك في المدينة للتعامل مع القمامة والنظافة العامة ولتنظيم الحياة في المدينة ولتنظيم السير وحركة المركبات وكيفية التعامل مع المخلفات الصناعية والمنزلية وإدارة المرافق العامة والخاصة ولإيجاد متنفسات طبيعية في المدن المكتظة كالمسطحات العامة والغطاء النباتي،الانتظام في الطابور كمظهر حضاري وتطوير وتحسين تقديم الخدمات العامة والخاصة للأفراد والعناية بالبحث العلمي وتوظيفها لتسهيل حياة الناس في المدينة وكمخرجات اجرائية للتطور العلمي تنعكس علي حياة الناس وتيسر حياتهم .......الخ.
الأهم في كل هذا الأمر أن النخبة الثقافية كانت البوصلة والبارومتر الذي جذر وعمق هذه السلوكيات وأنبتتها في التربة المحلية حتى غدت سلوك يومي معاش وطريقة يتعامل بين الافراد في المدينة، وذلك عبر نتاج ادبي وفني وثقافي ضخم مرتكزه الثقافة الجمالية التي قوامها المحبة وسبل التعايش السلمي وتقبل الرأي المختلف والتعاون علي تلبية متطلبات العيش المشترك في المدينة والعناية بالمظهر العام والخاص، حيث تغدو الورود والزهور مظهر عام لتحسين المزاج النفسي وزرع ثقافة المحبة والجمال والاعتذار سلوك حضاري شائع في المدن والقري دون إستثناء. وتجد لكل مدينة في العالم تاريخ يمتد الي نشأتها الاولي يحكي تطور هذه السلوكيات وتجذرها.
مرحلة النهضة تأتي عادة بعد تجذير حياة وسلوكيات المدينة، لأن المدينة شرط صحة لأي نهضة تفتح الباب للتطور والتقدم والتنمية لاحقا. فالنهضة هي حركة دينامكية واسعة تطرأ على مستوى الوعي والفعل تُخرج من الخمول والركود إلى الحركة والتغيير المؤَسّسين على إدراك تاريخي عميق ورؤية إستراتيجية مستقبلية واعية. والنهضة تأتي دائما بعد مرحلة الصحوة ثم اليقظة؛الصحوة التي تصحو خلالها روح الانتماء إلى الأمجاد والتاريخ، وتعتريها عاطفة قوية تـنزع نحو التحرك المندفع، ثم تليها اليقظة التي تُوجه هذه العاطفة المندفعة بإدراك وفهم راشدين،لتتوج بعد ذلك هذه المراحل بنهوض حقيقى يتجلى في بناء فكري عميق يليه بناء فعلي في مختلف المجالات والميادين،ومن نافلة القول أن هذا كله لا يمكن تحقيقه دون إرادة سياسية فعلية وحقيقية.
ما حصل عندنا للأسف في موريتانيا أن تاريخ التمدين وفق عند العام 1978 عندما استلم معاول الهدم (العسكر) الحكم في موريتانيا. فأوقفوا بوعي او بدون وعي التطور التدريجي للمجتمع الموريتاني – إن كنت ارجح أنهم فعلوا ذلك بغير وعي نظرا لتخلف مداركهم وعدم إلمامهم بمتطلبات مراحل البناء المختلفة للدول والكيانات العامة.
مرد تخلفنا وتردي الوضع عندنا وعجزنا عن التمدن بعد مضى فترة طويلة نسبيا(خمسة عقود ونصف) ليس فقط العسكر بل بالدرجة الاولي يرجع الى نكوص النخبة الثقافية عندنا وتقاعسها ببلاهة عن ممارسة وأداء دورها التاريخي والتنويري،إنني أقرأ منذ أواخر السبعينات وحتى الآن النتاج الادبي والثقافي لنخبتنا الثقافية والسياسية، لم أجد قط نتاج تنويري،فالجميع مهووس بالسياسة والفكر ولا تري نخبتنا في الثقافة غير هذا الترف الفكري في مجتمع متخلف وجاهل ومريض وفقير!
معظم النخبة عندنا تعيش في أبراج عاجية مفصولة عن واقع الناس، تلوك في نتاج معرفي للغير،يمثل المرحلة الحضارية التي وصلها الغير، دون أن تعي نخبتنا أن تلك النتاجات تحتاج الي إعادة صياغة لتواءم التربة الموريتانية.
نخبة تصدعنا بزعيقنا عن معاركها الوهمية حول التبادل السلمي للسلطة والديمقراطية وعدد غرف البرلمان وآلية الإنتخاب في مجتمع لا زال بدوي حتي النخاع ويطحنه الفقر والمرض والجهل في القرن الواحد والعشرين!
كان حري بنخبتنا طيلة الستة عقود العجاف الماضية أن تعلمنا الثقافة الجمالية التي هي قوام سكني المدن،كان حري بهم تعليمنا كيف ننظم حياتنا في المدينة بدءً من منازلنا مرورا بشوارعنا ومدارسنا ومتاجرنا وأن يعلمونا مدي أهمية نظافة الشارع والمحيط ومدي أهمية الشجرة والزهرة والوردة لحياتنا وصحتنا ومحيطنا، كان حري بهم ان يزرعوا فينا قيم العمل في المتجر والدكان والمحل والورشة والمنجرة والمخبزة والمكتب وفي المؤسسة والشركة وفي القطاع العام والخاص.
كان حري بهم طيلة الستة عقود العجاف الماضية أن يعلمونا قيم الدولة المدنية التي ترتكز علي حق المواطنة وسواسية الجميع امام القانون و أن يزرعوا فينا أن القبيلة معول هدم تتعارض مع الدولة المدنية وأن الدولة والمدينة هي القبيلة المعاصرة وأننا جميعا أبناء هذه الدولة متساوون أمامها وأن الكفاءة والنشاط والفعالية هي التي تحدد مكانة ومنزلة الفرد في المجتمع،وأن عراقة النسب والمحتد خرافة وأن المدينة والدولة هي الخيمة الكبيرة التي يستظل بظلها الجميع.
كان حري بهم طيلة الستة عقود العجاف الماضية أن يعلمونا كيف نتدبر امورنا وكيف نستغل خيرات البلد الهائلة لصالح رفاهنا وأن يثمنوا العمل ويجعلوه قدس الأقداس.
تقاعس النخبة عن أداء دورها التنويري هو ما اسلمنا في غفلة من الزمن الي العسكر الذين عاثوا في الارض فسادا وإفسادا بصفاقة لا حدود لها. وهو ما أدي الي إنسداد الافق أمام الناشئة التي ترتمي تباعا في وحل الجريمة المنظمة وتجارة المخدرات او تنظيمات الارهاب العابر للقارات.
لو أن نخبتنا الثقافية كانت تدرك أهمية قيم الثقافة الجمالية والحضارية التي تشكل قواسم مشتركة لشعوب العالم قاطبة لجنبونا هذا التردي المريع علي كافة الاصعدة.
في اكثر من مناسبة احضر ندوة او نقاش عام في موريتانيا، أستغرب من هذا الهروب الي الامام، فالجميع يتعامي ويتجاهل اشكاليات واقعنا التنموي ويركزون علي السياسة وكأنها المفتاح السحري لكافة إشكالياتنا الوجودية ومختنقات حياتنا المعيشية واكراهات واقعنا!
أزمة موريتانيا ليست أزمة حكم أو سياسات بل هي أزمة مجتمع عميقة الغور لن تحلها الديمقراطية او تغيير الحكومات او التبادل السلمي علي السلطة ولا تغيير عدد وشكل غرف السلطة التشريعية ولا تغيير النشيد والعلم ، إنها أزمة مجتمع يعشعش فيه التخلف بكل مكوناته وتجلياته حد أننا عاجزين عن التعامل مع مخلفاتنا وقاذوراتنا والغريب أننا الدولة الوحيدة والوحيدة في العالم التي لا شبكة مجاري او صرف صحي عندها بما فيها العاصمة!
سادتي الأعزاء كما تكونوا يولي عليكم،وحكامنا منذ الاستقلال وحتى الآن هم أفرازات عقليتنا وواقعنا،هم أبناء شرعيين لواقعنا بأنساقه وبناه المعرفية الموغلة في التخلف.هم لم يهبطوا علينا من المريخ بل هم نحن في سدة الهرم.
ولأن تقاعس جل النخبة الثقافية والسياسية قد حرمنا من التطور التدريجي والمرحلي لمجتمعنا فإني أري أنه لزاما علي النخبة الثقافية والسياسية والعلمية والمالية راهنًا أن تشرع كلا من موقعه في ممارسة دوره التنويري وبكثافة أكثر لأن الأزمة عميقة وتحتاج لتكاتف الجهود لإخراج مجتمعنا من عنق الزجاجة. فتأخر الدولة الموريتانية وعلي كافة الصعد وتخلفها عن الركب الحضاري حقيقة لا تجدي حيالها المكابرة وقد كتبنا في هذا الامر سلسة مقالات منذ أواخر العام 2013 تحت عنوان جامع (سلسلة أزمة مجتمع), حيث قمت في الحلقة الأولي من هذه السلسلة (http://www.aqlame.com/article16038.html) بتشخيص الواقع التنموي الموريتاني عبر استخدام لغة الأرقام التي غدت اللغة الأكثر إقناعا في عالم اليوم كمؤشرات دلالية يفصح استنطاقها عن إعطاء صورة واضحة المعالم عن مدي هشاشة وإهتراء وتهتك ما يسمي بالدولة الموريتانية وتآكلها علي كافة الصعد،أرقام صادمة ومؤلمة حد التجريح لكنها حقيقتنا المرة التي لا يمكننا الهروب منها بل يجب مواجهتها بشجاعة ودون الاكتفاء بجلد للذات والعويل والصراخ علي فرص ثمينة أهدرتها نخبتنا السياسية والثقافية في سانحة من الزمن وبغباء لا أجد له مبررا غير الجهل المركب والغرور والصلف وعدم إلمام بآليات التفكير الإستراتيجي, وعكس الكثير من الكتابات الحالية التي تحمل الكثير من التشاؤم واليأس والقنوط حد الإحباط والتي تتقاطع في إرسال رسالة سوداء مفادها أن فرصة تحديث موريتانيا قد فاتت وان قطار المدنية قد تجاوزها منذ ردحا من الزمن وأن لا فائدة من المحاولة! لمثل هؤلاء أقول أنه بالعكس,الفرصة لازالت مواتية وبأفضل مما كانت شريطة أن نتعامل كمخططين ومواطنين ونخبا بطرق تفكير مغايرة للعقلية المتخلفة الحالية وأن ندرك مأزقنا الوجودي وان نتوقف عن التعامي عن إشكاليات الواقع وان نعلن وبشكل جماعي عن رغبتنا في البناء وان نشمر عن ساعد الجد ونقرر نحن الموريتانيون ودون التعويل علي احد غير المولي عز وجل عن عزمنا أن نكون جزءا فاعلا من عالم اليوم وليس علي الهامش كما ارتضينا ولستة عقود من الزمن أن نكون.
للشروع في العمل أري أنه لزاما علينا العمل وبشكل متوازي علي ركيزتين أساسيتان تتقاطعان فيما بينهما:
1. فعلي المستوي المدني والثقافي علينا بتأصيل القواسم الكونية المشتركة وجعلها جزء من حياتنا في أدبياتنا و حياتنا الخاصة و العامة والإشادة بها والحض عليها وتبيان أهميتها.
2. علي بيوتات الخبرة الموريتانية من خبراء وعلماء وباحثين وأكادميين صياغة مشروع مجتمع وافي يكون بمثابة دليل ارشادي لصناع القرار في بلدنا من ساسة(موالاة ومعارضة)ونخبة ثقافية ومالية وعلمية للعمل علي استنهاض الهمة لبناء الأمة بأساليب التخطيط الاستراتيجي.
القواسم المشتركة الكونية (Global Commonalities)
هي السلوكيات والممارسات التي تراكمت عبر الحقب لتحسين الحياة في المدن والتجمعات الحضرية والتي تجدها في جميع مدن وقري العالم دون استثناء وإن بتفاوت نسبي حسب درجة التحضر والترقي. تلك القواسم بالمئات لكنني هنا سأشير لماما علي الاكثر اهمية منها علي أن اعود اليها كلها في تفصيل لاحق:
1. إدارة المخلفات: راكم سكان المدن عبر الاحقاب خبرات ومعارف جعلتهم يتعاملون بطريقة يسيرة وفعالة مع المخلفات عبر سلسلة طويلة تبدأ من الفرد داخل الاسرة وانتهاء بمحطات المعالجة النهاية وإعادة التدوير.
المخلفات التي تسمي أحيانا بالنفايات او القمامة والتي تتخذ في الدول العربية والإفريقية مسميات محلية مختلفة مثل الزبلة في تونس، والكناسة في ليبيا، والزبالة في المشرق العربي.
في أي تجمع بشري في العالم قاطبة، يتعلم الاطفال منذ الصغر مدي خطورة القمامة والأوساخ والمخلفات المنزلية،وذلك عبر سلوكيات وطريقة تعامل الوالدين مع تلك المخلفات،لذا يكبر الاطفال وهم مزودين بسلوكيات حضارية وراقية في كيفية التعامل معها، فينقلونها الي بيوتهم الجديدة عندما يتزوجون،من هنا ينتقل هذا المسلك الحضاري الذي تعززه وتعضده المدرسة والشارع والمؤسسة العامة والخاصة وبيئة العمل والفضاءات العامة.
في كل بيوت العالم توجد سلة مهملات يوضع بداخلها كيس القمامة، في الغالب تكون في ركن من أركان المطبخ، عندما يمتلأ الكيس يتم رميه في صندوق القمامة (يسمي في بعض الدول العربية بحاوية القمامة)، ويتم إستبدال الكيس الممتلىء بآخر جديد. وفي الاسر الكبيرة التي يتعدى عدد افرادها الخمسة توجد أكثر من سلة مهملات في اكثر من ركن في المنزل، يتناوب تلقائيا افراد الاسرة علي تفريغها دون الحاجة الي أمرهم بذلك، ومن المتعارف عليه أن كيس القمامة يتم رميه كل يوم حتي لو لم يتم امتلائه.
أمام كل عمارة صندوق قمامة (مصنوع وفق قياسات ومواصفات معينة لكي يتم التعامل معه بسهولة من قبل سيارة جمع القمامة التابعة للبلدية او الحي.
في المركبات السكنية يكون هناك مكان مخصص لصناديق القمامة بواقع صندوق لكل 20 شقة.
وفي الاحياء السكنية عادة يوضع علي ناصية الشارع صندوق قمامة محكم الاغلاق بواقع صندوق لكل 20 منزل.
صناديق القمامة عادة تكون محكمة الاغلاق،وذات مزلاج بحيث يتم فتح الصندوق وإغلاقه بسهولة ويسر دون كبير عناء. الصندوق عادة يصنع من الحديد او اللدائن ويراعي فيه أن يكون مقاوما للصدأ وخفيف الوزن، بالنسبة للصناديق المصنوعة من الحديد عادة تطلى من الداخل بمادة مقاومة للتحلل.
ويتم تفريغ صناديق القمامة مرة كل 24 ساعة وبعض مدن العالم تفرغ الصناديق مرتين في اليوم. ويتم تفريغ صناديق القمامة في أماكن تجميع تسمي المكبات.
في دول العالم الاول والثاني أصبحت صناديق القمامة متخصصة بل إن شعوب تلك الدول صارت تميز نوع القمامة بلون الصندوق,فعادة في هذه الدول تجد ثلاثة او اربعة صناديق صغيرة الحجم مصفوفة بجانب بعضها (لأغراض الفرز لاحقا)وكل صندوق مكتوب عليه بلغة اهل البلد نوع القمامة التي ينبغي رميها فيه.
في الشوارع المكتظة تكون الصناديق نظيفة وذات شكل جذاب ومريح ،وتجد ثلاثة أو اربعة صنادق بجانب بعضها مربوطة بطريقة تنم عن ذوق فني رفيع.
لأغراض تجارية ولتسهيل الفرز لاحقا عادة ما تكون هذه الصناديق متخصصة ومكتوب علي كل صندوق نوع القمامة التي عادة هي:
- قمامة عضوية organic garbage
- القمامة الورقية paper
- القمامة البلاستيكية glasses & plastic bottles
- القمامة القصديرية drink cans
سلال المهملات في المكاتب عادة ما تكون صغيرة وجذابة الشكل،وتتفن الشركات المصنعة في تجميلها، ومن شكل السلة يمكنك ان تخمن ما إذا كان صاحب المكتب رجل أو إمرأة (نظرا إلى إختلاف ذوق الجنسين من حيث الشكل واللون).
طريقة التعامل مع القمامة بشكل عام سواء كانت منزلية او صناعية او زراعية او تجارية تشي بدرجة تحضر أي شعب، فأكوام القمامة تشجع على تكاثر البكتريا والجراثيم والفيروسات والقوارض مما يؤدى إلي انتشار الأمراض وتفشي الأوبئة الفتاكة؛ما لم يتم عزل النفايات تماماً عن الدورة الغذائية للإنسان ومعالجتها لوقف تكاثر البكتريا. والقمامة والاوساخ بشكل عام تسبب أضرار جسيمة علي صحة الانسان والمحيط (الحيوان والنيات والتربة والغلاف الجوي).فالطرق غير العلمية في التعامل مع النفايات تظهر أشكال غير متوافقة مع البيئة للتخلص من النفايات، مما يتسبب في تعقيد المشكلات ولا يقدم حلولاً عملية لها.ومن الأساليب غير المتوافقة :
- الحرق: ينطوي أسلوب الحرق على مخاطر عديدة، من أهمها تلويث الهواء بنواتج حرق خامات متعددة، قد يكون منها المواد البلاستيكية؛ مما ينشر غازات وأبخرة سامة في الجو تتسبب في التهابات رئوية مزمنة وحادة.كما أنه ينتج عن حريق النفايات سائل سام ملوث للبيئة. فضلاً عن إهدار القيمة الاقتصادية لعناصر ومكونات صالحة لإعادة الاستخدام داخل القمامة.
- الطمر: الطمر أي الدفن، ومن مخاطره تولد سوائل سامة عن النفايات المطمورة تلوث التربة والمياه الجوفية. كما أن الطمر لا يمنع تسرب الفئران والحشرات للنفايات عن طريق أنفاق تتسرب منها الروائح الكريهة وغاز الميثان، وفيها تتكاثر الحشرات حاملة شتى الأمراض.
- الرمي في المجاري والمسطحات المائية: وهو السبب الرئيسي في تلوث مياه الأنهار والبحار،والإضرار بالسلسلة الغذائية فضلا عن مضاره الجسيمة علي صحة الانسان.
الطرق الحديثة للتعامل مع النفايات تعتمد علي اعادة تدوير القمامة لإنتاج الطاقة والأسمدة وإعادة استخدام المواد الاولية التي تحتاجها الصناعات التحويلية. وتتراوح عائدات إعادة تدوير القمامة من 55,6 – 820 دولار أمريكي للطن الواحد من القمامة في المدن.
في كل مدن العالم يتم التعامل مع القمامة المنزلية بالطريقة التي بيناها اعلاه، فقط تختلف دول العالم الثالث عن العالمين الاول والثاني في أن الدول المتخلفة تتخلص من النفايات بطرق متخلفة تلحق ضررا فادحا بالبيئة والإنسان وتشكل لها المكبات عبئا تنوء به، في حين عرفت دول العالمين الاول والثاني كيف تتعامل بطريقة علمية مع نفاياتها بحيث تتخلص منها بطريقة لا ضرر فيها، و بالمقابل تحقق منها عائدات مجزية.
تتراوح نفايات الفرد في اليوم في دول العالم المختلفة من 489 جرام الي 2,2 كيلو جرام بمتوسط قدره 1,345 كيلو جرام.
لو طبقنا هذا المتوسط علي عدد سكان موريتانيا البالغ ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة ،يعني أنه تتراكم يوميا من القمامة الناجمة عن استخدامات الأفراد حوالي 4707500 كيلو جرام من القمامة.
أي 141225000 كيلوجرام في الشهر.
أي 1694700000 كيلوجرام في العام .
أي أنه يتجمع عندنا سنويا 1,695مليون طن من القمامة.في حالة أن نخبتنا المالية من رجال اعمال وتجار قاموا بإعادة تدوير هذا القدر من النفايات عندنا لحققوا عائدات سنوية مجزية تصل الي مليارين ونصف المليار دولار أمريكي (أي 900 مليار من الاوقية)،ولقاموا بتوفير آلاف فرص عمل لشبابنا العاطل عن العمل. ولحلوا لنا مشكلة عويصة تشوه مدننا وقراننا وتضر بصحتنا وبيئتنا.
**********************************
بالمقابل ماذا نري عندنا في موريتانيا؟ درجة رهيبة من التعايش مع القاذورات والأوساخ والنفايات، وبشكل يدعوا للتعجب والاستغراب! وكأننا لسنا جزءً من عالمنا المعاصر.
لو أخذنا عاصمتنا"نواكشوط" مثلا لرأينا أن الاوساخ والقاذورات بشتي أنواعها تنتشر في كل أحياء المدينة بما فيها التي نسميها تجاوزا – أحساء راقية- كتفرغ زينة وكابيتال ولكصر الي لا ترقي في أحسن حالاتها الي أقذر قرية في دولة عالم ثالثية متخلفة.
لماذا نجمع كموريتانيين علي التعايش مع القاذورات والاوساخ ؟ ولماذا لازلنا وبعد مضي ستة عقود علي تأسيس دولتنا الخديج عاجزين عن التعامل الحضاري مع نفاياتنا وفضلاتنا وقاذوراتنا؟
نخبتنا الثقافية والسياسية ولا سيما من منها في المعارضة الكلاسيكية تجمع أن السبب يعود الي نظام الحكم وأن الحكومة هي المسئولة عن وجود هذه الظاهرة المشينة!
لا شك أن المجالس البلدية بالمقام الأول مسئولة عن المرحلتين الثالثة والرابعة من عملية التعامل مع القمامة والنفايات ذات المراحل الستة.إلا أن الفرد المواطن هو المسئول عن المرحلتين الاولي والثانية من العملية، فلو وجدت سلال القمامة في منازلنا لأمكننا فرض بقية العملية علي المسئولين والإداريين، فالمسؤولية جماعية ومعظم انظمة العالم الثالث الدكتاتورية منها أو الديمقراطية تتبع هذا السياق في التعامل مع القمامة، ولا يشذ عنها غير الشعب الموريتاني المبهر في حياته المغردة خارج سرب الحضارة المعاصرة.
أعيش في موريتانيا منذ 17 شهرا بعد غربة دامت 35 سنة عن ديار الوطن،وحتى اللحظة لازلت أتعامل مع القمامة كما إعتدت أن أتعامل معها في ديار الغربة.
واستغرب جدا من زملائي وأصدقائي من النخبة الثقافية التي عاشت ردحا من الزمن في ديار الغربة، كيف أنها تتعامل بشكل متخلف وبدائي في ما يتعلق بهذا الامر والأدهي والأنكي والأمر أنهم – أصدقائي من النخبة- لا يتورعون عن رمي العلب والأوساخ والنفايات في الشارع – هكذا وبكل بساطة وهم يضحكون من إستغرابى وإستهجانى- بل البعض منهم يردف قائلا:
- ستتعود مثلنا وسترمي القمامة من نافذة السيارة وفي الشارع وستبول في الشارع.
تساءلت كثيرا عن سبب ومرد السلوكيات اللا حضارية لشعبنا الموريتاني في تعامله اليومي،و قرأت كثيرا علني أجد جواباً مقنعا، فوجدت أن الشعوب الأخرى سارعت نخبتها الثقافية في تمدينها ورقيها وتحضرها خلاف ما عندنا.
منابر الاعلام والثقافية ووسائل الاتصال الجماهيرية عندنا جزء من أزمتنا وليست جزءً من الحل.
ليلة البارحة عندما أخبرت صديق لي من نجوم المجتمع المخملي والذي يرى في نفسه انه من النخبة الثقافية والسياسية الموريتانية أنني سأكتب سلسلة مقالات عن الوعي المدني وسأبدأ بالقمامة, رد علي مقهقها:
- يا دكتور اوحل في شي مهم، حد كيفك أنت يالتو يوحل ألا في القضايا السياسية الكبري، ماهو فالك ذ مايليق بمقامك!
إجابته جعلني أدرك حجم الكارثة والتردي والتدني الذي تعيشه نخبتنا للأسف.
في الحلقة التالية سأستمر في الحديث عن القواسم المشتركة الكونية،ثم لاحقا أعرض لمشروع المجتمع الذي أساهم به مع غيري من النخبة الواعية المثقفة في التأصيل لوعي مدني وحضاري وللعمل علي الانتقال بمجتمعنا من وهدة التخلف الي رحاب المدنية بآفاقها الرحبة.
........ يتبع إن شاء الله ............