أجاثاكريستي:
من من هواة الروايات البوليسية مثلي لا يعرف أجاثاكريستي؟
من مهم لم يخدعه حبكها المحكم الذي يصعب استنتاج المجرم فيه على أكبر العقلاء والمحللين؟
وعلى كل حال كانت تلك النظرية منذ عدة سنين، كنا نقرأ للكاتبة ونحن صغار لا نعقل، فكان بإمكانها خداعنا بكتابات ضعيفة سخيفة ركيكة لا أسس عقلية أو علمية لها، تجعلنا نعتقد أنها أعظم كاتبة بوليسية في الوجود !
هذا ما قلته لنفسي مؤخرا..
ولكن، لم لا أعيد قراءة بعض رواياتها قراءة المحلل المنتقد، وأطلع بنفسي على درجة حبكها وذكائها؟
بيت الرعب:
هذا بالفعل ما قررت القيام به..
فتحت الحاسوب وقمت بتحميل بعض رواياتها، ونسختها إلى "التابلت" الرائعة التي أعطتني الإنطباع أنني أقرأ كتابا حقيقيا، أتقلب به ذات اليمين وذات الشمال بكل استمتاع كما كنت أفعل وأنا صغير في المقاطعة الخامسة أو بوحديدة الجميلتين أيامها..
قررت البدء برواية "بيت الرعب" بطولة المحقق العبقري "هيركيول بوارو".. أقوى أبطالها في نظري..
تاكي الرائعة:
بدأت الرواية بالفتاة الجميلة "تاكي" التي تسير في خطوات مرحة متفائلة نحو المحقق الذي ينوي اعتزال التحقيق إلا إذا أطلق عليه مجرم حاقد النار، حينها سيضطر إلى العودة إلى مجال التحقيق دفاعا عن نفسه.. هذا ما قال لمساعده الجالس بجانبه..
فجأة وكأن الأقدار تريد له ذلك.. مرت رصاصة طائشة من قبعة الفتاة "تاكي" واستقرت في الجدار خلفه مباشرة !..
محاولات الإغتيال:
تبدأ الرواية بالفتاة "تاكي" التي تنعرض لعدة محاولات قتل، مما يضطر المحقق المغرور "بوارو" إلى التدخل لحمايتها من القاتل المتربص بشبابها..
وتنتهي بتسارع للأحداث نعرفه في كل الروايات، وتتم إماطة اللثام عن القاتل الذي حتى وإن تخيلت معرفته فإن الكاتبة ستتلاعب بك حتى تخرجه من دائرة الشبهات.. يا ذكي..
الأدب الراقي:
القصة قوية جدا، فاجأني حبكها وذكاء كاتبتها رغم أنها كتبتها في فترة متقدمة من القرن الماضي (القرن التاسع عشر)، ستلاحظ أن المجتمع البريطاني وقف حائرا أيامها في وجه تحرر وعبثية الفتيات ! الأمر الذي سيصبح أمرا بديهيا فيما بعد، في هذا العصر المعاش..
وستلاحظ أن الكاتبة تكتب بأدب تختار ألفاظها وتصرفات أبطالها بعناية حتى لا تخل بالذوق العام، وذلك الأدب المتوفر هنالك – في الغرب - والذي يعتبرون المفتقر إليه "حيوان"، هو أدب نحن في قمة الحاجة إليه في مجتمعاتنا المتخلفة اليوم، رغم كوننا مسلمين !..
فمثلا ترى أبطال الرواية يتحدثون إلى بعضهم البعض بمنتهى الإحترام دون خوف أو خجل، فهم أحرار في أنفسهم يفعلون ما يشاؤون بمنهى اللياقة والرقي دون اعتبار للآخر أو أذية مباشرة له، عكس النفاق الموجود عندنا.
مثلا عندما يكون الواحد منهم منشغلا بشيء كالرجل الذي كان يعد وجبة غداء فلما شاهد المحققين يدخلان بيته هتف فيهما: "مرحبا أصدقائي سأفرغ مما بين يدي قريبا ثم ألحق بكما"..
ثم نادى زوجته: عزيزتي إن صديقانا الشرطيين يتجهان نحوك..
بلا مقدمات ولا مجاملات.. ولا فظاظة أيضا..
ولو قال لهما "اعذراني الآن وعودا من حيث أتيتما"، لما كان في ذلك أدنى إشكال عندهم..
أيضا.. لا مجال لتضييع أوقات الآخرين الثمينة، فالزيارات تكون بمواعيد مسبقة معروفة ولها فترات محددة لا تزيد عليها، وحتى إن تمت - كزيارة المحقق لأحد المحامين - فإنه يدخل مباشرة في صلب الموضوع الذي جاء من أجله، لا وقت للعبث والضحك في مجال الأعمال أو حتى في الشارع.
يسارع المحقق لترك المحامي في مهنته التي خطفه منها لبضع دقائق، ولهذا تراهم في الغرب لا يحبون الزيارات العشوائية التي نعاني نحن ويلاتها في العالم الثالث، حيث يهبط عليك الأقارب وغيرهم، بالباراشوت في موعد الغداء أو النوم، دون أدنى استئذان !
والغربيون بهذا الإنزواء والأدب أقرب ما يكونون إلى البرود، ولكنه برود محمود لأن كثرة مخالطة الناس وتضييع العمر في الثرثرة والفضول بينهم، لا تفيد، ففي الوقت متسع لإنجاز ما هو أهم أو تعلم ما هو أفضل أو عبادة الخالق جل وعلا..
هذا الأدب والرقي الذي تتعامل به تلك الطبقات الراقية في مجتمعاتهم، هو أحد أسس حضارتهم الجديدة، وللأسف لم نستفد نحن منه شيئا، فرغم كثرة قراءاتنا لهم، لم يأخذ مثقفونا وأدباؤنا منهم إلا سلبياتهم وخمورهم وكفرهم ودعارتهم !..
خبرة وتمرس:
أما من جهة خبرة الكاتبة في مجالها، فيتضح من أول سطر أنها خبيرة في المسائل البوليسية، ولعلها استعانت بقصصهم الحقيقية وارتادت مخافرهم بحثا عما تغذي به رواياتها العجيبة..
أما خبرتها في الناس فمدهشة حقا.. يتضح ذلك بجلاء عندما تعطي قراءها دروسا قيمة في الحياة:
"إن الشيطان قد يكون عالما أو أديبا وهو شيطان، فاحذر"..
إن بعض الشخصيات المصطنعة في الرواية أظهرت الأدب والرقي وسلامة القلب والجانب، ثم تبين أن أصحابها من المجرمين وأراذل الناس ! كقاتل القصة على سبيل المثال..
وكأن الكاتبة تقول لنا: لا تنخدعوا أبدا بالمظاهر فإنها خداعة.. إن من واجب كل إنسان عاقل أن يتصرف بلباقة وكياسة وأدب واحترام، لكن لا تعني كلمة "عاقل" أنه "جيد"، ففي اعماقه قد يرقد شيطان أو حيوان فتاك.. وإذا تأملت وجدت إبليس أعلم الناس وأعقلهم ولكنه شيطان..
هذه هي الحقيقة المخيفة:
إن البشر قد يسرقون ويخونون ويقتلون إذا أحسوا بالحاجة أو الغيرة أو الحسد أو حتى الجنون !.. ذلك هو الإنسان إذا انعدم لديه الوازع الديني والخلقي، ولهذا ترى الجريمة في الغرب منتشرة اليوم..
خلاصة القول:
القصة مبهرة رغم أنها قديما، وفيها دليل صارخ على أن الشهرة التي حصلت عليها الكاتبة مستحقة بالفعل.. وهذا رأيي باختصار..