تحدثنا في الحلقة الأولي من سلسلة " نهضة الأمم" عن المرحلة الحضارية التى إنتقلت فيها المجتمعات والدول من مرحلة البادية الي المدينة- التي تعتبر إشتراط موضوعي وتاريخي للنهوض والتقدم لاحقا – وبيَّنَا أهمية النخب الوطنية في التسريع من وتائر ذلك التحول، حيث عملت نخب الدول والمجتمعات
من حولنا، ولا سيما النخب الثقافية والسياسية والمالية،عبر نتاج معرفي باذخ الثراء الي تجذير وزرع وعي مدني تحول تدريجيا ومع الوقت الي سلوك وعقلية تتماشي مع متطلبات وتعقيدات الحياة في المدينة.
حتى الاستقلال الداخلي العام 1957 كان المجتمع الموريتاني بكل أعراقه يعيش حياة البداوة بكل تجلياتها، حتى ما يشبه القري والمدن عندنا في ذلك الوقت كانت إمتدادا للبادية عقليةً وسلوكًا ومظهراً، وعندما بدأ التحضير لتكوين الكيان السياسي الجديد المسمي "موريتانيا" علي الساحة الجيوبوليتيكية الدولية،كان النسيج الاجتماعي لشعبنا يعيش البداوة بصور مختلفة حيث :
1. كان يعيش معظم البيظان حياة البدو الرحل في فركان " نجوع بدوية" يتنقلون وراء الكلأ والمرعي.حياة البداوة في الفريك بسيطة لا تعرف تعقيدات المدينة ولا تستدعي التنظيم والترتيب وصرامة الانضباط كما في المدينة.
2. لحراطين كان يعيش بعضهم مع البيظان أرقاء يمارسون أعمال السخرة، في حين أن غالبيتهم كانت تعيش في آدوابه " جمع أدباي" عيشة بدوية.
3. لكور كانوا يعيشون في كصور "جمع كصر" في قري ريفية، قريبة من ضفة النهر، ذات حياة بسيطة تفتقد هي الاخري لتعقيدات المدينة، وإن كانت كصور لكور أكثر تنظيما واشد صرامة وانضباطا من فركان البيظان ويمتهنون أساسا الزراعة وبطرق بدائية تعتمد علي جهد الانسان والدابة أساسا.
ولأن المستعمر الفرنسي لم يستقر في البلاد وكان يديرها من الخارج ولدواعي أمنية ولوجيستية فقد إكتفي بحاميات عسكرية فرنسية في أنحاء متفرقة من البلاد لدعم القوات الفرنسية ما وراء البحار ولتكون حلقة وصل بين قواته في الجزائر والتي تتواجد في دول غرب أفريقيا. لذا نلاحظ بإستغراب شديد أن فرنسا لم تقم بإنشاء أي نوع من البنية التحتية في طول البلاد وعرضها! مما يشي بتدني أهمية الاقليم المسمي موريتانيا في الاستراتيجيات العسكرية الفرنسية.
وبعيد الاستقلال الداخلي كانت أقاليم بلادنا المترامية الأطراف تدار من سينلوى في الجارة الجنوبية السنغال بخليط من الادارة الفرنسية والسنغالية وقلة من أبناء الاعيان في موريتانيا!
بعد الاستقلال سعي الرعيل الأول من جيل الآباء المؤسسون للدولة الموريتانية الحديثة الي إنشاء مدن جديدة - العاصمة وغيرها- والي تمدين وتحديث ما عندنا من اشباه القرى والمدن(عرفت موريتانيا جزء من التخطيط العام التدريجي للانتقال من مرحلة البداوة الي مرحلة المدينة منذ الاستقلال الداخلي (1957) ولمدة عقدين من الزمن لكن بوتيرة متباطئة يرجعها الباحثون الي شح الامكانيات وقلة الخبرات المحلية الموريتانية التي تدير المرحلة مما استدعي مركزية شديدة التكثيف منذ تلك الحقبة لازالت تطبع الحياة العامة عندنا حتي الآن!)
وعرفت مدننا طيلة عقدين من الزمن حركة تمدين بطيئة الوتائر لكنها كانت مدروسة ووفق مؤشرات رقمية! وخلافاً للمتعارف عليه في بقية دول العالم حيث كانت النخبة الثقافية هي البارومتر والموجه للتحول التدريجي من البادية الي المدينة عبر ترسيخ سلوكيات وعقلية اهل المدينة التي تنزع الي التنظيم والنظافة والترتيب وتقديس العمل،لكن عندنا قاد الساسة – معظمهم انصاف متعلمين من خلفية بدوية- هذه المرحلة، نظرا الي أن النخب الثقافية عندنا لم تتبلور بعد كطبقة ولم تتحدد بعد معالمها، وتقول الدراسات التي أنجزها مركز ابحاث ودراسات فرنسي لصالح وزارة الداخلية الموريتانية في العام 1964 أن سكان العاصمة نواكشوط سيبلغون العشرين الف نسمة مع حلول الألفية! وقد واجهت حكومات الرئيس الراحل مختار ولد داداه صعوبة خلال السنوات الأولى بعد الاستقلال في إقناع الشعب الموريتاني – وتحديدا شريحة البيظان- بترك الترحال والتنقل والتوطن وسكن المدينة !
قبل مرحلة تأسيس الدولة الموريتانية كان إقتصاد المجتمع الموريتاني يقوم علي ركيزتين أساسيتين هما:
- الرعي (يطلق عليه" التنمية "في اللهجة المحلية!)ويمارسه 78% من مجموع الشعب الموريتاني (البدو الرحل)،معظمهم من شريحتي البيظان ولحراطين،فى نظام إقطاعي وتراتبية إجتماعية صارمة غير قابلة للتشظى او الاختراق، وتتحدد فيها مكانة الفرد في المجتمع منذ الولادة وفقاً لنسبه وأصله!
- الزراعة بأساليب بدائية لسد احتياجات المجتمعات الريفية المحلية ويمارسها 19% من مجموع الشعب معظمه من شريحة لكور وقليلا من لحراطين.
وفي بواكير التأسيس كان معظم سكان المدن الجديدة والقرى القديمة من شريحة لكور التي أقبلت علي حياة المدينة وأدخلت أولادها المدارس منذ حقبة الاستعمار.
حرصت حكومات ولد داداه المتعاقبة طيلة العقد الأول من عمر الدولة الوليدة علي تهيئة سبل الحياة وتوفير متطلبات ومستلزمات سكنى المدن،عبر الانتقال التدريجي والطوعى للسكان الي المدن التي توفرت علي بنية تحتية لائقة نسبياً ومناسبة بالنسبة للأعداد البسيطة التي كانت تتوافد علي المدن والقرى،إلا أنه طرأ عاملان مهمان عملا علي تحديد المستقبل السياسي والاجتماعي لموريتانيا وأطاحا بتلك المحاولة الجادة لتمدين المجتمع والدولة الموريتانيين هما:
الجفاف : عرفت موريتانيا موجات متتالية من الجفاف والقحط خلال عقود الستينات والسبعينات حتى أواخر الثمانينات من القرن المنصرم،أتت علي معظم الأراضي الزراعية فإرتفع معدل التصحر وانجراف التربة،الشيء الذي قضي علي الاقتصاد الزراعي(عماد الاقتصاد الريفى)،كما أدى الجفاف إلي نفوق ملايين الماشية (عماد الاقتصاد البدوي)،فإنتشر الفقر والعوز إنتشار النار في الهشيم،وعرفت بلادنا منذ 1972 موجات متتالية من الهجرة الجماعية لفركان وآدوابه كاملة الي المدن والقرى وكان للعاصمة نصيب الأسد من هذه الهجرة،حيث تدفقت عليها هجرات جماعية من السكان بلغت الذروة في سنة 1975 (نصف مليون نازح)، ولأن المدن الجديدة والقرى لم تكن مهيأة لاستقبال هذه الاعداد الكبيرة من الوافدين، فقد إنتشرت أحياء الصفيح والأكواخ (التي تعرف محليا بالكبات)،ففي العاصمة مثلا كانت كبة سينكييم وسيزييم من أوائل هذه الاحياء،فبادرت الدولة الي توزيع هذين الحيين كقطع أرضية علي سكانها،وتتالت موجات التدفق،ودخلت الدولة من حينها في متتالية هندسية حتي اليوم،فما إن تقم بتقسم أراضي كبة ما حتى تنبت لها كبات أخريات كالفطر.
من العام 1957 بدأ عدد البدو الرحل في موريتانيا في التناقص ففي العام 1965 كانت نسبتهم من مجموع السكان 78%، بلغ 33,2% في عام 1977، وفي عام 1988 بلغت النسبة 12,5% ، ومع مطلع الالفية قدرت نسبتهم بــ 5% ، ويري الباحثون أن نسبتهم الآن تتراوح بين 0,8 – 2,4% من مجموع السكان.
بمجرد أن أضحي غالبية سكان موريتانيا يقطنون في المدن القري،أصبحت الدولة مصدر الدخل الرئيس لغالبية السكان فتولدت الدولة الريعية بطريقة فجة لازالت تبعاتها تلاحقنا حتي اللحظة !
لم يكن الجفاف كله شر بالنسبة للمجتمع الموريتاني،فقد عمل الجفاف في موريتانيا ما لم تفعله المساطر القانونية ولا الاضبارات الحقوقية، حيث عمل الجفاف علي بداية إنهاء حقبة الرق والاستعباد في موريتانيا عندما وجد السيد نفسه فجأة معدما وفقيرا لا يملك حتى قوت نفسه. وفي اكواخ الصفيح والكبات كنت تري السيد والعبد يسكنان ذات الاكواخ ويزاولان ذات المهن.الجفاف الذي افقر الجميع عمل علي تحرير العدد الاكبر من الارقاء في تلك الحقبة والبقية الباقية تكفلت بها الحركة الوطنية الموريتانية بمختلف مشاربها عبر نضالات حقوقية وسياسية شاقة ومريرة توجت بقوانين تجرم هذه الممارسة. ويمكن القول أن ظاهرة العبودية والاسترقاق قد انتهت عمليا في موريتانيا لكن مخلفاتها بادية للعيان في كل مكان تقريبا، وتتجسد في التفاوت الطبقي الصارخ وحقول المهن المختلفة مما جعل ابناء وأحفاد الارقاء السابقين يشكلون العدد الاكبر من الطبقة الاكثر هشاشة في المجتمع.
حرب الصحراء : التي دخلت موريتانيا فيها كطرف في عام 1975 كانت كلفتها باهظة حيث إستزفت الموارد الهزيلة للدولة وادخلتنا في لعبة الأمم دون تحضير كافى،وفتحت شهية معاول الهدم(العسكر) للانقضاض علي الحكم بشراهة لا تعرف الارتواء.
هذان العاملان أديا الي تعثر المشروع التنموي والتحديثي للمرحلة المدنية من عمر الدولة الموريتانية، وكانت الكلفة الباهظة لحرب الصحراء الغربية السبب المباشر والرئيس للمنعطف التاريخي الحاد الذي اسلم القياد للعسكر في سانحة من الزمن أدخلتنا المجهول وأخرجتنا من دائرة الفعل الحضاري وقادتنا الى حقبة مغامرات العسكر التي يطبعها التخبط والارتجال ويقودها الجشع وحب التسلط،وحرمت موريتانيا من التطور التدريجي،وكرت مسبحة الانقلابات لتعيدنا الي عصور الغابة والانحطاط حيث شرعية القوة هي الفيصل والمحك! وتتالت الانظمة العسكرية التى لا تحمل أي مشروع حضاري او تنموي،ومع الوقت تآكلت المكتسبات الحضارية علي قلتها التي تحققت خلال الحقبة المدنية من عمر الدولة الموريتانية.
غاب دور النخب الوطنية - الثقافية تحديدا- طيلة الحقبتين(المدنية والعسكرية)عن ساحة التأثير وتقاعسوا عن أداء دورهم التنويري في تحديث وتمدين عقلية الناس ذات الاصول البدوية والريفية،ففي الحقبة المدنية قاد الساسة التغيير وعملوا علي صياغة وتمييع وعي الناس وربطهم بشكل عضوى بالسياسة، وفي غياب دور تنويري للنخبة الثقافية تمكن الساسة من تدجين الناس وتسويغ فكرة دكتاورية الحزب الواحد والرئيس مدي الحياة! وفي مرحلة العسكر عرفت البلاد حقبة اللا سياسة واللا إدارة وإستشري الفساد بشكل لافت حتى غدى ثقافة ومسلك عام غير مستهجن ولا سيما في الفترة الممتدة من 1984 الي 2005 التي تمثل أسوأ مراحل حقبة العسكر،وتعمق الشرخ بين شرائح المجتمع حد القطيعة والتباغض والعداء! وتهتك وإهتري النظام التربوي حتى وصل الى الحضيض وهو حاليا يحتضر دون مسعف.
كما كتبنا في الحلقة الاولي من هذه السلسلة أن دور النخب الوطنية كان محوريا وفاعلا في تحديث وتمدين مجتمعاتهم إبان التحولات الكبري، ويكون هذا الدور شرط صحة ووجود في حالة الانتقال من البداوة الي المدينة وما يترتب على ذلك من تغيير للعقلية الضابطة والمحددة للسلوك العام والخاص بأنساقها وبناها المعرفية وذلك من خلال ترسيخ وتجذير قيم الثقافة الجمالية عبر نتاج معرفي وفني وأدبي باذخ الثراء،لكن ما حدث عندنا طيلة الحقبتين(المدنية والعسكرية) أن النخبة تقاعست عن أداء دورها التنويري والتحديثي لذا حرم الناس القادمين من البادية والريف من عملية تحديث حقيقية للعقلية والسلوك، فسادت بالتالي قيم البداوة والريف في جانبيهما المسلكي والوجداني دون القيمي منها في مدننا وقرانا التي حولتها موجات الهجرات المتتالية بعيد موجات الجفاف الي مدن بمسلكيات وعقليات بدوية وريفية،وحدثت عندنا سابقة في علم الاجتماع، هي بدونة وترييف المدن والتجمعات الحضرية بدل العكس.
سلوكيات الافراد داخل المدينة تتم صياغتها عبر النتاج الثقافي للنخبة من خلال الفن(المسرح والغناء والتمثيل والفن التشكيلي والسينما ...الخ) والأدب(المقالة،القصة،الرواية،الشعر) والإعلام (الصحف والجرائد والمجلات والاذاعة والتلفزيون) والتأصيل المعرفي(الكتب والدراسات والبحوث والندوات والمؤتمرات العلمية) والسياحة (الملاهي، المنتجعات، المركبات الترفيهية، السياحة الداخلية والسياحة الصحراوية) والرياضة (الاندية الرياضية،الرياضة المدرسية،) ومؤسسات المجتمع المدني والمكتبات العامة والمنتديات الاجتماعية والثقافية والروابط والاتحادات والنقابات والمؤسسات التعليمية (المدرسة والجامعة والروضة والمعهد). وذلك لتحسين الذائقة العامة للمواطن وجعل سلوكه متماشيا مع متطلبات العيش المشترك في المدينة وملبيا لتعقيدات وتشابك الحياة في المدينة وتكون الحصيلة أن المواطن يعى أهمية النظافة فتكون بيوتنا نظيفة وشوارعنا نظيفة ودورنا ومؤسساتنا ومحيطنا نظيفا،ويدرك المواطن أهمية الغطاء النباتي لصحته النفسية والجسمية ولتحسين المزاج وعلاقة ذلك بتحسين المحيط العام وبالتالي يتكون لديه حس بيئى فيكبر وهو صديق للشجرة حيث يراها في حديقة المنزل وعلي جنبات الطريق وفي المدرسة وأينما حل.
- عبر النتاج الثقافي للنخبة يتعلم المواطن الوافد علي المدينة من البادية او الريف كيف يحترم الطابور (الصف) ويدرك أهميته بأنه وسيلة حضارية لتنظيم وتسهيل المعاملات وليس للتعطيل فيأخذ دوره فيه دون تذمر لقناعته بأهميته.
- عبر النتاج الثقافي للنخبة يتعلم المواطن سبل التعايش السلمي في المدينة،فينشأ متقبلا للرأي الآخر ويحترم الاختلاف ويدرك أن الوطن للجميع.
- عبر النتاج الثقافي للنخبة يتم توجيه الناشئة والشباب الي هوايات مفيدة فتعج بهم الاندية ويمارسون الرياضات المختلفة فيتم إمتصاص فورة النشاط الزائد الذي يميز هذه المرحلة العمرية نظرا لارتفاع النشاط الغدي الذي يحيل الشاب الي كتلة نشاط لا تهدأ (Peak level of hormones) بدل تركها دون تصريف فتتحول الي وجهة ضارة تتجسد في كم العنف الذي يعتمر داخل الصدور وجنوح الشباب الي المخدرات،فتتلقفهم كارتلات الجريمة المنظمة وتنظيمات الارهاب العابر للقارات.
- عبر النتاج الثقافي للنخبة يتعلم المواطن قيم المواطنة الحقة عبر إدراكه أن الوطن هو القبيلة وهو الانتماء والهوية.
- عبر النتاج الثقافي للنخبة يتعلم المواطن حقوقه الفطرية كمواطن في الدولة المدنية:
1. فيدرك الموظف أن راتبه يتحصل عليه من دافع الضرائب الذي هو المواطن.
2. يعرف المواطن أن حق التعليم والطبابة والتوظيف حق فطري لا منة من أحد.
3. يعرف المواطن اهمية صوته فلا يقدمه إلا لمن يستحق.
4. يعرف المواطن كيفية محاسبة المسئولين والموظفين عبر التقاضي او الاعلام.
5. لا يحتاج المواطن لواسطة او محسوبية للحصول علي حقوقه الفطرية والمكتسبة في الدولة المدنية.
- عبر النتاج الثقافي للنخبة يتعلم المواطن تقديس أهمية العمل.
- عبر النتاج الثقافي للنخبة يتعلم المواطن كيف يحترم المنشآت العامة للدولة لإحساسه بأنها ملك له وليست ملكا للحكومة او الدولة.
- عبر النتاج الثقافي للنخبة يتعلم المواطن احترام اشارات المرور واحترام الموظف العام أثناء تأدية واجبه.
- عبر النتاج الثقافي للنخبة يتعلم المواطن ثقافة الاعتذار، تلك الثقافة التي تنم علي الذوق الرفيع والتربية والرقى والتحضر.
عبر النتاج الثقافي للنخبة يتعلم المواطن القواسم المشتركة الكونية التي تكلمنا عنها في الحلقة الاولي وقلنا أنها هي السلوكيات والممارسات التي تراكمت عبر الحقب لتحسين الحياة في المدن والتجمعات الحضرية ولتسهيل الحياة وجعلها اكثر يسر وسلاسة والتي جاءت تلبية لمتطلبات واحتياجات العيش المشترك في المدن والتجمعات الحضرية وهذه القواسم تجدها في جميع مدن وقري العالم دون استثناء وإن بتفاوت نسبي حسب درجة التحضر والترقي. تلك القواسم بالمئات والتي ذكرنا منها كيف راكمت الشعوب في المدن خبرات سلوكية في كيفية التعامل مع القمامة والمخلفات.
عندنا في موريتانيا أدي تقاعس النخبة الوطنية (الثقافية والسياسية والمالية والعلمية والدينية)عن أداء دورها التنوير الي تضييع فرصة ستة عقود من الزمن كانت كفيلة بجعلنا شعبا متحضرا قد إنتقل من مرحلة الانتقال من البادية الي المدينة الي مرحلة النهضة للانتقال من مرحلة المدينة الي التقدم.
تقاعس تلك النخبة عن أداء دورها التنويري هو ما جعل ذلك البدوي وذاك الريفي الذي نزح من الفريك او قريته الي العاصمة او المدن الكبري طلبا للرزق ولتحسين مستوي معيشته أو للتمتع بخدمات العصرنة، ذلك التقاعس غير المبرر هو ما جعل:
- ذاك البدوي او ذاك الريفي لازال يبول في الشارع وعلي قارعة الطريق بعد مضي ستة عقود علي تمدينه !.
- هو ما جعل ذاك البدوي او ذاك الريفي يتعايش بهذا الشكل الغريب مع القاذورات والأوساخ ولا يقيم وزنا للنظافة ! في العاصمة وفي غيرها مما نسميها تجاوزا مدناً.
- هو ما جعل ذاك البدوي او ذاك الريفي يتعصب لقبيلته ولجهته ولعشيرته.
ذاك التقاعس هو ما جعل ذاك البدوي او ذاك الريفي القابع في أعماق كل منا يتوسل واسطة قريب او صديق او معرفة لاستخراج وثيقة ما او للحصول علي حق له في إداراتنا التي تعشعش فيها البيروقراطية والمحسوبية والواسطة والمحاباة.
كيف لنا أن نلوم ذاك البدوي او ذاك الريفي القابع في أعماق كل منا عندما يتصرف بتخلف في المدينة، فهو ببساطة يتصرف بعفوية وتلقائية حسب عقلية وسلوكيات الجهة القادم منها، والمورثات السلوكية التى استقاها من وسطه البدوي او الريفي – حتى لوكان من مواليد العاصمة او المدن - لذا لا يحق لنا الاستهجان او التأفف من سلوكه طالما أن النخبة الوطنية تقاعست طيلة ستة عقود عن تنويره وتمدينه وتأهيله حضاريا ليكون جاهزا وصالحا للسكني في المدينة.
في كل مدن وقري العالم مارست النخبة دورها التنويري ما عدا النخبة المبهرة عندنا في موريتانيا !
في أي محاولة لتقييم رقمي للحصاد الثقافي والمعرفي لنخبتنا سندرك هول المأساة التي تصل حد الكارثة، بكل ما تحمل الكلمة من معني.
- عدد الروايات المطبوعة خلال ستة عقود في موريتانيا 163 رواية ( 94 باللغة العربية و68 باللغة الفرنسية وواحدة باللهجة السونكية) مع استثناءات قليلة لافتة خلال السنوات القليلة الماضية، معظم هذه الروايات - ولا سيما العربية منها - عبارة عن استعراض عضلي لغوي فج ذو مسحة محظرية لافتة ولا تتبع لأي من المدارس النقدية المعروفة،مما يجعل معظمها غير خاضع للمعايير المتعارف عليها في كتابة الرواية. # بالمقابل متوسط عدد الروايات سنويا في دولة الصومال 211 رواية، 64% باللغة العربية والباقي بالانجليزية والايطالية والسواحلية (للعلم الصومال دولة فقيرة بالكاد خرجت من حرب اهلية طاحنة ومتوسط دخل الفرد السنوي فيها 600 دولار في حين أن متوسط دخل الفرد السنوى في موريتانيا 2123 دولار)
- عدد النصوص المسرحية المطبوعة في موريتانيا خلال ستة عقود 18 نصا (6 بالعربية و8 بالفرنسية وثلاثة باللهجات الوطنية وواحدة بالحسانية) # بالمقابل المتوسط السنوي للنصوص المسرحية في الصومال 11 نصا.(للعلم فإن قرية الرستن – احدي القري التابعة لمدينة حمص السورية – والتي لا يتجاوز عدد سكانها 65 الف نسمة كان المتوسط السنوي للنصوص المسرحية المطبوعة فيها حتي العام 2011 هو 322 نصا مسرحيا كل عام).
- الشائع عندنا أن موريتانيا بلاد المليون شاعر(عند سماع هذا اللقب سيتبادر الي الاذهان انه علي الاقل سيكون عشر هؤلاء الشعراء أصحاب دواوين مطبوعة ومنتشرة في العالم العربي وغيره)...عدد دواوين الشعر المطبوعة في موريتانيا طيلة ستة عقود 73 ديوان ( 34 باللغة العربية و32 باللغة الفرنسية و 7 باللهجات الوطنية – الدواوين بالحسانية لا بيانات متوفرة!) # بالمقابل متوسط عدد الدواوين الشعرية المطبوعة سنويا بالصومال 82,7.
- عدد الاغاني الموريتانية الملحنة وفق قواعد النوتة الموسيقية اغنية يتيمة وحيدة،هي اغنية "ريشة الفن " للشاعر احمد ولد عبد القادر وأداء الفنانة الراحلة ديمي منت آبه، بقية الاغاني كلها تركيب ومزج لايقاعات ثلاثية مخزنة في الارج عند التصنيع (الذي نسميه البيانو!).
- انتظرت موريتانيا اربعة عقود متتالية بالتمام والكمال لظهور اول مسلسل تلفزيوني موريتاني, وخلال هذه العقود الستة العجاف بلغ عدد المسلسلات الموريتانية 31 مسلسل معظمها أقرب للسكتش المسرحي منها للمسلسل التلفزيوني نظرا لتدني الاخراج وضحالة النص ورداءة الإضاءة وكأن القيمون عليها هواة وليسوا محترفين! أما الصوت فتلك طامة كبري حيث ألاحظ وحتي الآن وحتى في قناة التلفزيون الرسمية تذبذب التون وعدم إستخدام التدرج الفونوجرافي عند المعايرة الصوتية! إفتقار شديد ومجافاة للذوق الفني المفترض تضافره فيمن يزاول هذه المهن الفنية الرفيعة المستوي التى عادة يتولاها الفنيون والفنانون المرهفو الحس وذو الذائقة الفنية الرفيعة.
- ثماني ضروب من الفنون الجميلة التي تحسن الذائقة العامة لا مكان لها في مجتمعنا يأتي في مقدمتها الفن التشكيلي (وذلك لدواعي مذهبية وليست دينية).
الامثلة أعلاه مجرد النزر اليسير من الامثلة لتفشي ظواهر التخلف والبداوة السلوكية – وليس القيمية – جراء تقاعس النخبة الثقافية عندنا عن أداء دورها التنويري لتمدين وتحديث المجتمع.
بدل أن تتجه النخبة الثقافية الي ممارسة دورها التنويرى في المجتمع وتنصب وتنكب عليه عبر نتاج معرفي وثقافي إبداعي نلاحظ هذا الهوس المرضى بالسياسة حيث تم تسييس كل شيء عندنا والكل يتعاطى السياسة عن علم أو عن جهل، دون إدراك منا أن السياسة شأن نخبوي في دول العالم.
نخبتنا المعرفية والثقافية عندنا بدل أن تتجه الي الانتاج الابداعي عبر الادب والفن والعلم(والتي تحتاج طبعا للاحتراف والتفرغ) للعمل علي صياغة العقلية العامة وفق بني وأنساق حداثية تعايش العصر ولتحسين الذائقة العامة للناس، بدل من هذا أدارت الظهر لدورها التنويرى بالغ الاهمية في المجتمع وكرست وقتها وجهدها لممارسة السياسة وبطرق بدائية ومتخلفة لا ترى في الوطن غير كعكة يجب اقتسامها فنشرت ثقافة الاسترزاق السياسى والفساد والخمول والكسل.
استسهال الحصاد والسعار والسعي الحثيث وراء الثراء السريع هو ما جعل ثقافتنا معظمها شفاهية،لذا تجد أن مثقفي موريتانيا فرسان الفضائيات والندوات والمؤتمرات وبشكل لا يتناسب مع حجم وعدد السكان عندنا قياساً بدول عربية اخري مثل مصر والجزائر وسوريا والعراق والمغرب والسعودية والسودان، هذا لأن هذه المناشط والفعاليات تعتمد أساسا علي الكلام والحديث، في حين تغيب نخبتنا تماما عن الفعاليات الحقيقية ذات الجهد الرصين التي تحتاج نتاج معرفي وعلمي وثقافي حقيقي كمعارض الكتب والمعارض العلمية، والغريب أن حتى نخبتنا الأكاديمية من حملة الشهادات العليا تشارك بفعالية وحضور لافت في المؤتمرات والندوات العلمية التي تقام في المراكز البحثية والجامعات الاجنبية في دول عديدة، لكنها بالمقابل لا تؤلف كتبا ولا تقوم بإعداد الدراسات الميدانية – كلا في مجال تخصصه – لمواجهة استحقاقات واقعنا التنموي! تلك المشاركة الخارجية وبكثافة ما هي إلا ضرب من الهروب الي الأمام وإدارة الظهر وتجاهل مشاكل واقعنا علي كافة الصعد.
من ضروب الهوس المرضي بالسياسة من قبل نخبتنا جنوح الجميع الي كتابة المقالات في الشأن السياسى،فجميع أفراد نخبتنا تكتب مقالات في السياسة بل البعض بلغ به النبوغ حد كتابة مقالين في اليوم الواحد! مقال في الصياح وآخر في المساء!
***************************************************
كما كتبت في الحلقة الاولي من هذه السلسلة أنه علي النخبة الثقافية الموريتانية أن تتدارك الامر وتعيد ترتيب أولوياتها فلم يفت الأوان بعد وحالة موريتانية ليست عصية علي التمدين والتحديث شريطة أن نمارس دورنا التنويرى بفعالية في مجتمع في أمس الحاجة الي جهودنا الريادية لتوجيه بوصلة التوجيه نحو الاتجاه الصحيح في التمهيد لبنية فوقية تكون عماد التغيير المنشود للبنية التحتية، وللشروع في العمل أري أنه لزاما علينا العمل وبشكل متوازي علي ركيزتين أساسيتان تتقاطعان فيما بينهما:
1. فعلي المستوي المدني والثقافي علينا القيام بتأصيل القواسم الكونية المشتركة وجعلها جزء من حياتنا في أدبياتنا وحياتنا الخاصة والعامة والإشادة بها والحض عليها وتبيان أهميتها.
2. علي بيوتات الخبرة الموريتانية من خبراء وعلماء وباحثين وأكادميين صياغة مشروع مجتمع وافي يكون بمثابة دليل ارشادي لصناع القرار في بلدنا من ساسة (موالاة ومعارضة)ونخبة ثقافية ومالية وعلمية للعمل علي استنهاض الهمة لبناء الأمة بأساليب التخطيط الاستراتيجي.