لا نعمة تكافئ تنفس الهواء الطّلق بلا منّة من أحد، ولا شيء أجمل من استنشاق ذلك الهواء النقي والاستبشار بالتيارات البحرية الباردة كلّ أصيل، كان هذا حال ساكنة انواذيبُ الذي يحسدون عليه.
لم يكن في المدينة من شيء مغر بالحياة والبقاء أكثرَ من حسنات هذ المناخ اللطيف؛
المناخ الذي شكل الاستثناء الجميل في بيئة جافة حارّة مغبرة، لكن الحال تبدل وتغير بعد مجيء مصانع مسحوق وزيت الأسماك، تلك المصانع حوّلت هواء المدينة العليل إلى رائحة كريهة تملأ المكان وتزكم الأنوف، نظرا لما تنفثه هذه المصانع من أدخنة وروائح نتنة تضرّر منها سكان المدينة أكبر الضّرر، كأنما هي عقوبة جماعية لآلاف المواطنين في أعز وأغلى ما يملكون: أكسجين الحياة.
أريد أن أتنفس، أصبح هذا مطلب الآلاف في هذه المدينة، بل إن لسان حال المدينة كلّها بات يلهج بشفقة: أريد أن أتنفس، فهل إلى خلاص من سبيل؟
لماذا مصانع مسحوق وزيت الأسماك؟
لعل هذا هو السؤال الكبير الذي يتبادر إلى أذهان كثيرين منا حين الحديث عن مصانع مسحوق وزيت الأسماك، المعروفة محليا ب "موكا"..
بدأت هذه الصناعات التحويلية لإنتاج مسحوق وزيت الأسماك منذ خمسينيات القرن الماضي، لتشهد بعد ذلك تطورا كبيرا ابتداء من تسعينيات القرن الماضي، يتم انتاج مسحوق السمك انطلاقا من تجفيف وطحن الأسماك الكاملة أو مخلفات الأسماك التي يتم استبعادها أثناء عمليات تصنيع وحفظ وتعليب الأسماك الموجهة للاستهلاك البشري.
يُستخدم مسحوق الأسماك في الأعلاف الحيوانية وكذا بشكل متزايد في تربية الأحياء المائية Aquaculture، ويعتبر مسحوق السمك مادة غنية بالبروتين والأحماض الأمينية والدهون، تتراوح نسبة البروتين من 60 إلى 70 في المائة، وكلما زادت النسبة كلما كانت النوعية جيدة وزاد سعرها، ونظرا للنمو الكبير لقطاع تربية الأحياء المائية عالميا كبديل استراتيجي للصيد الطبيعي في سياق نفاذ المخزونات السمكية، فإن الطلب زاد على هذه المادة في السنوات الأخيرة مما زاد من أسعارها وأغرى كثيرين بالاستثمار في هذا المجال، ومن المهم هنا التذكير بأنه من أجل انتاج طن واحد من مسحوق الأسماك فلا بد من خمسة أطنان من الأسماك، وهو ما يشكل بطبيعة الحال عبئا إضافيا على المخزونات السمكية، خصوصا تلك التي تعاني فرط استغلال.
في انواذيبُ نمت المصانعُ كالفطر...
تم إنشاء أول مصنع لإنتاج مسحوق وزيت الأسماك في انواذيبُ سنة 2005 ، بعد ذلك شهدت هذه المصانع نموا متسارعا جدا، حيث انتقل العدد من مصنع واحد سنة 2005 إلى 43 مصنعا حتى نهاية دجمبر 2014، 25 منها تعمل الآن والبقية لديها رخص للعمل وهي في طريقها لذلك، (IMROP,2014) وهذا رقم كبير على المستوى العالمي، جعل من موريتانيا تحتل المرتبة الثانية عالميا من حيث عدد مصانع مسحوق وزيت الأسماك بعد البيرو، متقدمة على الصين، عملاقي الإنتاج السمكي في العالم !
يجد هذا العدد الكبير أحد تفسيراته على المستوى العالمي في ظل تراجع إنتاج مسحوق وزيت الأسماك عالميا الملاحظ منذ 2005 ، نتيجة التأثر بالتقلبات البيئية، خصوصا ظاهرة النينو التي تؤثر على مصايد أنشوجة البيرو، إحدى أهم الأسماك عالميا المستخدمة في انتاج مسحوق وزيت الأسماك، في حين استمر الطلب الاجمالي على هذه المادة في الازدياد مما دفع الأسعار إلى أعلى مستوياتها التاريخية المسجلة أواخر العام 2014، حيث وصل السعر إلى 1900 دولار لطن مسحوق الأسماك (FAO,2016).
حسب بعض الإحصائيات العلمية للمعهد الموريتاني لبحوث المحيطات والصيد على معطيات سنة 2013 فإن مصانع مسحوق وزيت الأسماك النشطة في موريتانيا، استخدمت 303375 طن من الأسماك، أساسا أسماك السردين Sardinella وسمكة الأوبو Ethmalosa fimbriata لإنتاج 63600 طن من مسحوق السمك و 18200 طن من زيت السمك، نسبة 93% من الإنتاج تمت في مصانع انواذيبُ.
باعتبار معدل سعر الطن عالميا، حسب معطيات FAO، والذي وصل إلى 1771 دولار أمريكي لطن مسحوق الأسماك نهاية 2014، فإن هذه المصانع سجلت رقما ماليا يقدر ب 114 مليون دولار تقريبا، أي حوالي 40 مليار من الأوقية، هذا دون حساب العائد المادي لزيت الأسماك، ولعل في ذلك سببا آخر قويا لتفسير الطفرة الكبيرة في إنشاء هذه المصانع، حولي 50 في المائة من هذه الصادرات تصدر إلى روسيا.
عبر من التجربة المغربية..
في تقرير لرحلة علمية نظمتها وزارة الصيد والاقتصاد البحري سنة 2012 للاطلاع على التجربة المغربية في مجال صناعة مسحوق وزيت الأسماك -وهي تجربة رائدة في هذا المجال تمتد لأكثر من ثمانين سنة، جعلت من مصانع مسحوق وزيت الأسماك المغربية الأولى التي حصلت على شهادات الجودة ISO حتى قبل الصين والبيرو، أكبر منتجي الأسماك في العالم- يُظهر التقرير أن أهم دروس التجربة المغربية كان في التركيز على النوعية بدل الكمية، مع تطبيق صارم للنظم البيئية ومعايير الجودة، مصداق ذلك أنه منذ 1998 لم يتم استصدار أي رخصة جديدة لهذه المصانع في المغرب، رغم أهميتها ودورها الكبير في قطاع الصيد هناك، كما أن هذه المصانع توجد كلها في حيّ صناعي بعيدا من المناطق السكنية، وهو ما يعني إبعاد خطر الروائح الكريهة والأضرار البيئية الأخرى المؤثرة على حياة وصحة الإنسان.
من الأهداف المُعلنة في استراتيجية قطاع الصيد في موريتانيا من 2015-2019 : تشجيع الصناعات التحويلية للأسماك، خصوصا تلك التي تستهدف أسماك السطح الصغيرة الموجودة بكميات كبيرة في موريتانيا، غير أن هذا التسارع غير المنظم في مصانع مسحوق وزيت السمك طرح مشاكل بيئية كبيرة، ليس أقلها ضررا تحويل حياة سكان انواذيبُ إلى جحيم نتيجة الكميات الهائلة من الروائح الكريهة المنبعثة من هذه المصانع، وذلك نظرا لغياب أجهزة تنقية الأدخنة المنبعثة من أغلب المصانع، أو وجودها في حالة رديئة في البقية الأخرى، هذا بالإضافة للآثار البيئة الأخرى على المياه والصحة العمومية، حيث يظهر أن هذه المصانع لم تتقيد فيما يبدو بما نص عليه المرسوم رقم 105 الصادر 2007 والمتعلق بدراسة الأثر البيئي لهذه المصانع وضرورة الالتزام بالنظم والإجراءات المنصوص عليها.
صحيح أن الوزارة المعنية بدأت في التنبه لهذه المصانع، خصوصا فيما يتعلق بالكميات الكبيرة من أسماك السطح الصغيرة الموجه لهذه المصانع، واعتبرت الوزارة في نص الاستراتيجية أن "التطور المذهل في مصانع دقيق السمك شكل -بدون شك- أحد أبرز الأحداث التي طبعت تاريخ قطاع الصيد البحري في موريتانيا" ففي تعميم صادر من الوزارة 15 فبراير 2016 تم تحديد حصة سنوية تقدر ب 10000 طن من الأسماك الكاملة الموجهة لصناعة مسحوق وزيت الأسماك، وسيتم نقص هذه الكمية بمعدل 15 % كل سنة خلال السنوات الأربع للاستراتيجية، ويعتبر هذا إجراء مهما إذا ما تم الالتزام به، غير أنّ إجراءات الرقابة والتنظيم بشكل عام لاتزال غير كافية للحد من الآثار السلبية لهذه المصانع على البيئة والصحة العمومية.
ختاما، لقد أصبح من الضروري أن يتم التعامل بشكل صارم مع هذه المصانع للتخفيف من أضرارها البيّنة على البيئة والإنسان وعلى المخزون السمكي، والعمل على إيجاد مصانع صديقة للبيئة، لا تسبب الضرر لسكان المدينة، جراء روائح نتنة تلبد سماء المدينة، تسببت -حسب بعض المواطنين- في ظهور بعض الحساسيات وضيق للتنفس وأعراض أخرى قد تكون لها آثارها الخطيرة على المستوى البعيد على صحة الإنسان، في سبيل ذلك هذه بعض المقترحات الأولية:
• نقل جميع المصانع التي تعمل حاليا إلى منطقة بعيدة من الأحياء السكنية لتجنب خطر الروائح الكريهة وما تسببه من ضرر بيّن أصبح يؤرق ساكنة المدينة،
• منع التراخيص لأي مصنع جديد والتركيز على الانتاج النوعي بدل الكمي
• التطبيق الصارم لنظم السلامة البيئية على هذه المصانع، وذلك بإلزامها تركيب أجهزة فعالة وجديدة لمعالجة الأدخنة المنبعثة وتنقيتها من الرواح الكريهة.
في انتظار أن يتم شيء من ذلك، سيواصل آلاف المواطنون في مدينة انواذيبُ -غصبا عنهم- حصّة العذاب الجماعي مع كل يوم تشرق فيه شمس المدينة، استنشاقا لروائح نتنة كريهة، لا لذنب اقترفوه، سوى أن الله حبا أرضهم بثروات سمكية ومناخ جميل، ليكون حظهم من كل ذلك عذابا في النهار وآخر أشد من ذلك في الليل، فهل من تدارك؟