لن تنتهي معاناة المضطهدين في الأرض أبدا وستكون دائما هناك حالة تهميش أو تحقير أو تعذيب أو غبن ما دامت الحياة ، لأن نسبية الحقيقة تفرض ذلك ولأن مبدأ المساواة نفسه نسبي وليس مطلقا ...
قال لنا أستاذ منذ سنين مضت ونحن في كرسي جامعي خلال السنوات
التي كنا نحضرُ فيها لشهادة الليصانص فكرة مفادها أن الاختلاف سنة طبيعية وأن وحده المجتمع ـ أي مجتمع ـ تكمن في توافر أكبر قدر ممكن من الخلافات في الرؤى وفي الإيديلوجيا وفي الطبائع حتى وفي طرق التفكير ، أي أنه ستكون هناك فئة طافحة تحبُ أن ينحوا الجميع طريقها وفئة داعية تسعى لذلك بوسائلها وأخرى ما بين هذا وذلك ...
وهذه فلسفة واقعية إذا ما نظرنا إلى المجتمع بعين الواقع متعمعنيين في مختلف أوجه الحياة الاجتماعية بعيدا عن شرح تلك الفكرة التي قالها الأستاذ ، لكن أي دور للتهميش في ذلك ؟
فإذا كانت الحياة قد جُبلت على ما جُبلت عليه من اختلاف أهلها ، فإن للسلطة دوافع هي الأخرى تدير بيدها الأمور بطريقة مختلفة عن طريق توزيع الحقوق الاجتماعية والفردية ومنحها فتقرر من سيهمش ومن سيقاسم معه ومن هو صاحبُ الحق ومن هو المانح له بالفعل.
طبعا لا أقصد هنا قضية النوع وقصة غبن المرأة لأنني اعتبر أنها فوق كل ما يُحاك ضدها ، ولا أقصد المهمشين المصطنعين الذين تذكرهم الدولة بتاريخ ظلم اجتماعي معين ، وتحركهم له في الوقت الذي تُكذبُ هي نفسها عنه ، بل أقصد تلك المسألة التي تجعل الشخص يعيش غريبا في مجتمعه ويسكنه الوجد وهو بين أظهُر محبين ، إنها المسألة المجهولة المعلومة قصة "بطالة حملة الشهادات" وبالطبع تلك مسألة أهمُ بكثير من جميع ما يبلور ويناقش ويشغل الرأي العام ، ومن جميع ما يحاك ويطبق في الكواليس سرا .
وحين ما يذكر أحد تلك المسألة لا بد من أن يتساءل عن سببها أو من كان مسببها بالفعل . ، أهي الحكومة التي تمارس السلطة الرمزية الفعلية؟ أم أن الأمر يعود إلى ضعف التكوين وعدم موائمته لمتطلبات سوق العمل ؟ .
يقول ميشل فوكو أن "القوة الفعلية التي تمارس السلطة في أي دولة ليست إلا علاقات القوى المتعددة التي تكون محايثة للمجال الذي تعمل فيه تلك القوى
طبعا مشيل فوكو كان يسعى إلى تحديد مفهوم السلطة الذي اعتبر أنها لا تتمثل في مؤسسات الدولة وحدها بل إنها عبارة عن تلك الحركة التي تحول مختلف القوى و تزيد من حدتها و تقلب موازينها بفعل الصراعات و المواجهات التي لا تنقطع "
ومن ثم فمصدر قوة السلطة عند فوك ليس جبروتها و لا قهرها و إنما تولدها في كل لحظة و من كل اتجاه و هكذا تصبح السلطة وضعية استراتيجية معقدة في كل مجتمع على حدا ومن ثم فإن السلطة يمكن أن تفهم كمفهوم انطلاقا من ذلك الدور .
طبعا يظهر من خلال ذلك الدور المتلعثم والمتنوع والمتناقض لمن يمارس السلطة ولكل المؤسسات الفاعلة فيها والمكونة لها ، انطلاقا من هذا يمكن أن نفهم مختلف الحركات التي تظهر في مجتمعنا كل لحظة ، ونفهم دور السلطة االمتشتت في ذلك دون تعليق طبعا ، ونتساءل عن سبيل حل أزمة الأزمات التي تُبلور كل الأمور التافهة والغير لائقة كي تحول دونها ؟.
لكن الغريب أن دور السلطة ذلك تقوى حدته في ميدان المنافسة حيث لا أحد يستطيع أن يميز بين المدني والأمني في الوقت الذي تقرر السلطة بنفسها ذلك ، فتبلور الأفكار وتنتج الحركات لا من أجل المصلحة العامة بل من أجل ضبط المجتمع وشغله عن أموره المهمة الأولى .
وطبعا البطالة من الأمور المعقدة وتتدخل في تواجدها عوامل عديدة نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية حتى ، وهي من الأمور المتحركة التي لا تظهر وفقا لعوامل بذاتها ، لكن الباحث عن أسبابها طبعا من هذه الناحية التي بلورنا وبهذه الطريقة سيجد أن مشكلها يتفاقم بتفاقم المشاكل التي تُدار تبعا لأغراض معينة دونها .
فلو أن الحكومة والجميع مهتمون بذلك لما كان من أمرها ما كان ، فالقطاع الخاص وحده المستقطب لليد العاملة وللخرجين ، والدولة دون أبواب سترٌ والف حجاب وحجاب .
لكن يجب أن يكون في الحسبان دائما أن هذا الإنسان الذي بات محور كل الخطط التنموية وأساس الكون قادر على أن يشعل في لحظة وعي عابرة بنفسه كل شيء ،وبالخصوص عندما يدرك حجم التلاعب الكبير الذي يحاك ضده دون أن يدري .
فليست قصة إيرا وقصة العبيد والمرأة وحقوقها والأحزاب والترخيص لهم دون أي معيار موضوعي إلا وجها بسيط من تجليات السلطة ومن تعددها في مختلف الحياة الاجتماعية ، ومن إدارة السيطرة ومحاولة إنتاجها لحظة بلحظة .
ولا يمكن التصديق بنسبة محدودة غير قابلة للزيادة ولا للنقصان تبعا لذلك ، ويكفي التساؤل عن السنوات التي يقضها القطاع العام عن الاكتتاب وعن ظروف الاكتتاب وعن تداعياته وعن ما يحاك سرا في كواليسه ليدرك الإنسان حجم ذلك التلاعب الجزئي الذي يسبح في عالم ما أشرنا له سابقا.