لا أخالني أجانب الصواب إذا جزمت في بداية هذه المعالجة –المتواضعة- بأن إعادة كتابة تاريخنا الوطني وغربلته وتمحيصه أصبح أمرا ضروريا وملحا، ولا أخال أحدا يعترض على هذه الحقيقة، إلا مكابرا يغمِط الحق ولا يستسيغه، أو مجادلا تدفعه خلفياته الإيديولوجية للمجادلة ضد حقيقة باتت واضحة وجلية.
يتعلق الأمر هنا بضرورة علمية لها أكثر من مسوغ وسبب.. ليس أقلها شأنا المسوغات الابستمولوجية ذات الأبعاد المتعلقة بالشروط العلمية التي يجب أن تتوفر في أية نظرية أو أطروحة أو مقاربة حتى يمكن أن توصف بـ"العلمية".
ودون الخوض في الإشكالات والعوائق الابستمولوجية المرتبطة بالعلوم الإنسانية عموما، وبعلم التاريخ على وجه الخصوص، تجدر الإشارة هنا إلى بعض الملاحظات المتعلقة بعملية التأريخ للأحداث التي شهدها هذا المنكب البرزخي، حيث لا يزال الغموض يطبق بظـُـلم حالكة على جوانب كثيرة من الأحداث التي شهدها الحيز الجغرافي الذي تسمى بهذا الاسم في مرحلة معنية، ثم بأسماء أخرى توحي كلها بأنه بعيد، شائك، عصي على الفهم، خارج على النظام..
وأول ملاحظة يمكن للمرء أن يبادر بتسجيلها في هذا السياق هي أن "الأنتلجنسيا" التي تولت مهمة كتابة المدونة التاريخية لهذا البلد لم تكن محايدة بالمرة، لقد كانت طرفا في صراعات إيديولوجية احتدمت واشتد أوارها حتى أنتجت في بعض مراحلها حروبا شرسة طحنت المنطقة وأهلها لفترات طويلة، وقد أتيح لهذه "الانتلجنسيا" أن تسجل الأحداث والوقائع وفق رؤيتها وقراءتها وتأويلها، وبالطريقة التي تبرر مواقفها، وتمجد آراءها وتظهر إيديولوجيتها بوصفها المصدر الوحيد للحقيقة.
هذه الخلفية الإيديولوجية المتجذرة انبثق عنها منهج "تأريخي" انتقائي/إقصائي؛ ينتقي من الحقيقة ما يخدم الإيديولوجيا، ويقصي ما يناقضها، ويسلك مسلك السرد القصصي الموغل في المدح والإطراء والتمجيد، وإبراز الكرامات والخوارق، معتمدا أسلوب الإثارة والترغيب والترهيب، وكأنه يستهدف بذلك الهيمنة على عقول الناس، وإخضاعها وتوجيهها والسيطرة عليها لتظل مستسلمة للإيديولوجيا السائدة.
إنه تاريخ البطولات والأمجاد والكرامات، ذاك الذي أنتجته تلك "الانتلجنسيا" .. التاريخ الذي يصنعه القائد البطل الملهم، كما يصفه "توماس كاراليل".
وتجدر الإشارة هنا إلى عنصر آخر مسيس الصلة بالعنصر أعلاه، وربما شكل سببا له؛ ألا وهو الغياب الكلي للنقد التحليلي من منظومتنا المعرفية عموما، وجانبها التاريخي على وجه الخصوص.. فباستطاعتنا أن نفتخر بأننا بلد المليون شاعر، ولكن لا يمكننا أن نحتفي بناقد واحد أنجبته هذه الأرض.. لقد أنتجنا خلال القرون الماضية ترسانة هائلة من المعارف، ولم نفلح في إنتاج منهج أو آلية نقدية نستخدمها لتمحيص وغربلة ترسانتنا المعرفية تلك..
إنها معضلة ابستمولوجية جذرية تستحق التأمل والتفكير؛ فلِمَ غاب النقد من منظومتنا المعرفية؟ لِم لمْ تنجب أرضنا نقادا حاذقين، نافذي البصيرة النقدية، كما أنتجت علماء جهابذة، وشعراء مفلقين، وفقهاء نابهين؟
في تقديري أن الإشكال أعلاه يستحق لفتة بحثية من كبار كتابنا ومثقفينا ومفكرينا، وفي تقديري أيضا أن غياب العنصر النقدي يكفي وحده لتبرير وتأييد فكرة إعادة كتابة تاريخنا الوطني..
ولا أطالب هنا بــ "مسح الطاولة" على الطريقة الديكارتية، بقدر ما أطالب بضرورة استدعاء "الحفر الأركيولوجي" للبحث في حقيقة الأحداث التاريخية التي شهدها حيزنا الجغرافي، وإعادة استكشاف حقيقتها.
المنهج الأول يراه البعض واردا وحلا وحيدا، أما الثاني فأراه ضروريا ومفيدا، وقد يكشف أن الأول ضروري أيضا، ولا غنى عنه.