...قليلا من احترام الجيش / أحمد ولد محمد المصطفى

أحمد ولد محمد المصطفىللجيش الموريتاني حضور بارز في مختلف مجالات الحياة، فأغلب النقاشات تبدأ به أو تنتهي إليه، تختلف الآراء حول دوره، وتتفق على ضرورة احترامه باشتراطات تخص كل طرف في النقاش. أخذ الجيش الموريتاني زخمه المتزايد منذ العاشر يوليو 1978 تاريخ إسقاط أول رئيس مدني في موريتانيا.

وظل الحاضر الأبرز، والمؤثر الأقوى في الحياة الموريتانية، والراسم الوحيد لحاضرها ومستقبلها، مع أدوار للمدنيين يرجع تحديد مستواها وحجمها إلى العسكريين. للجيش –في أي أمة- احترامه الخاص، المكافئ لدوره المقدس في رد العدوان، وحماية البيضة وصيانة الكرامة، ولا بقاء لأمة لا تقدر من يبذل من أجلها، ويقدم أغلى ما يملك لحمايتها، يحمل روحه على كفه للدفاع عنها. قد تكون هناك أخطاء وهنات، قد يحصل تقصير أو تفريط، قد يخرج "بعضهم" عن اختصاصه، وقد يورط الجميع معه في تهور غير محسوب، أو خطوة غير مدروسة، أو تصرف أرعن، لكن لا ينبغي أن يؤثر "تصرف فرد أو أفراد" على صورة الجمع، فالأصل أن الجيش له الحق في الاحترام، بقدر بذله وجهده في سبيل الوطن وفي سبيل أمني وأمنك وأمن موريتانيا ككل. تواردت هذه الأسطر إلى ذهني وأنا أتذكر ثلاثة وقائع فقط، يبدو لي أن الجيش لم ينل فيها ما يستحق من الاحترام، ولم يكافأ "بالحسنى"، بل كان أصحابها "أيقونات" إذلال، ومظاهر كفران بجميل رجال تفاوت تضحياتهم وبذلهم أغلى ما يملكون في سبيل أمن قد لا يعني لنا الكثير قبل فقده.  

 

الجندي "المتسول" أول هذه الوقائع وأقدمها قصة الجندي محمد محمود ولد محمد، كان ذات صباح في أداء واجبه المقدس في حماية ثغر موريتاني شمال البلاد، تعرضت حامية الجيش التي يعمل فيها في لمغيطي لهجوم ظالم سقط فيه عدد من الجنود، وأصيب عدد منهم بجراح، كان من بينهم الجندي محمد محمود الذي أصيب في أطرافه إصابات بالغة. تعود بداية قصة محمد محمود مع الجيش إلى العام 1994 حين قرر مغادرة التعليم في مستوى الاعدادية، حب الجندية والإعجاب بالعسكر وضعا حدا لمشوار محمد محمود التعليمي. تدرب الجندي محمد محمود في فك لكليته وحول بعد تخرجه إلى بير أم اكرين، واندفع بقوة في الأداء العسكري على الثغور، كان يتنقل بين لمغيطي والغلاوية والشكات، وأحيانا يمضي ثلاثة أشهر في هذه الصحاري القاحلة. لا معنى لكل هذه التفاصيل عند معرفة واقع الجندي المحب للجندية والمعجب بالعسكرية، فهو اليوم قد انضم إلى جيش جديد، إنه جيش المتسولين في شوارع نواكشوط، انضم إليهم وهو يعتمد على عكازات بديلا عن أرجل فقدها في لمغيطي، وتركها هناك وصمة عار على جبين قادة جيش ضنوا عليه حتى بمعالجة جراحه، أو توفير ما يغني عن الانضمام للجيش الجديد. يعمل محمد محمود اليوم بنشاط كبير في جيشه الجديد، جيش تزداد أعداده بشكل فريد، ويبذل أفراده لزملائهم بكل كرم ما يملكون، وأغلى ما لديهم أماكن يصفونها بالإستراتجية أمام بوابات المساجد وقرب المراكز التجارية الكبرى، في انتظار ما تجود به أيدي محسنين.

 

التضامن ممنوع ثاني الوقائع هي قصة الدركي اعل ولد المختار، فقد تعرض لاختطاف خاطف قبيل انصرام العام الماضي، كان ولد المختار في مقر حامية الدرك في مدينة عدل بكرو، ولعله كان يصدق أحاديث "جنود الاحتياط" في نواكشوط، وأعوانهم في وزارة الداخلية بأن الحدود مؤمنة، وأن المنافذ محددة والمنطقة كلها منطقة عسكرية مغلقة، قبل أن يواجه الحقيقة التي لا مراء فيها، ويسقط بكل سهولة في يد أفراد من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. "منع" ولد المختار حتى من التضامن معه، ورفض "وزراء في الحكومة" التعليق على موضوعه، أما العسكريون فقد اختفوا أو انشغلوا بتهديد والدة المسكين، ومحاولة منعها من كشف تفاصيل قضية ابنها. سمح تنظيم القاعدة لولد المختار بالحديث، فجاء حديثه مختصرا، ومباشرا للرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز، وبحجج لا تقبل النقاش، لقد بذلت جهودا كبيرة لإطلاق صراح النصارى الأسبان، وأرجو أن تطلقوا سراح اثنين من معتقلي تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي لتخليصي من ورطتي، ويزيد الضحية –ربما لإدراكه أن خطابه للرئيس وللعسكريين قد لا يجد صدى – فيتجاوز الدولة ليناشد قبائله ويدعوها لتحريك الملف. بعد كل هذه المناشدات وتحريك ملف الدركي شعبيا وإعلاميا، يأتي وزير الخارجية الموريتاني ليتحدث في لغة تشبه التمني قائلا: "كان بإمكان الدركي أن يموت كما مات غيره من الضباط والجنود"، وليؤكد في الحديث ذاته "أن موريتانيا لن تتفاوض مع الإرهابيين أبدا". أي رسالة وأي معنى نوصله لجنودنا ،لأفراد قواتنا المسلحة المرابطين على الثغور، لأعدائنا، للمتربصين بنا من خلال التفريط في جندي أخذ من داخل حاميته، وضن عليه حتى بكلمات تضامن لا تضرنا في شيء ولا تنفعه هو في شيء، لكنها لا تكلفنا -في الوقت ذاته- أي شيء ما دام منطق "التجارة" هو المسيطر على تفكيرنا. 

 

منع الحق المدني ثالث قصصنا هي مع ضابط الصف محمد ولد كعباش، اعتقل هذا الضابط من محل عمله في النعمة مايو 2011، رحل بسرعة إلى قيادة الأركان في نواكشوط، حقق معه بسرعة، ثم ترك وحيدا في زنزانته لمدة ثلاثة أشهر تعرض خلالها لحرب نفسية رهيبة. أطلق سراحه بعدها وسرح من الجيش بعد أن خدم فيه لمدة 25 سنة، منع من حقه في التقاعد، وساهم غموض بيان الجيش حول قضيته في نشر الشائعات حيث تحدث عن انتهاكه للقانون العسكري دون أن يوضح شكل الانتهاك. الماضي العسكري لولد كعباش ومنحه ربع قرن من عمره للجيش الموريتاني كان عليه لا له، فقد تسبب له في السجن ثلاثة أشهر دون مبرر واضح، ثم طرد من دون حقوق، طرد ولد تخوفا لدى أرباب العمل منه، وأخيرا منع من الحصول على حقه المدني في الحصول على جواز سفر سبيلا للضرب في الأرض، ففيها منأى للكريم عن الأذى، وقد يكون هناك من هو أكثر عدلا ووفاء لمن قدم له اليسير من الجهد والوقت والخدمة. هذه الصور والوقائع وتفاصيل أخرى كثيرة ضاعت في تفاصيل حياة جيشنا الوطني منذ "نزوحه" في العاشر يوليو 1978، تستدعي منا أن نقف معها ولو يسيرا، وأن نعلنها عالية، وبكل صراحة، رجاء... قليلا من احترام الجيش.

7. فبراير 2012 - 15:22

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا