كل المؤشرات تدل على أن ساعة الصفر-ساعة التغيير في موريتانيا- قد أزفت. فسمعة النظام في ورطة حقيقية، حتى في جانبها الاجتماعي الشخصي المتعلق بأسرة "الرئيس"، ومحيطه الضيق، وتجربته في شتى المجالات يسودها الارتباك، الشيء الذي يدفعه إلى إقالات في أعلى الهرم الأمني.
حيث أبعد الجنرال محمد ولد الهادي عن منصب المدير العام إلى منصب إداري شكلي في وزارة الدفاع، وخطر القاعدة في تزايد وتصاعد، خصوصا بعد التهديد بتصفية الدركي الأسير. والمواد الاستهلاكية في تصاعد لا يعرف التوقف أو التردد، رغم أن السواد الأعظم من السكان لا يملكون ما يكفي لقوتهم اليومي، حتى مع الترويج لمشروع دعم أسعار مواد محدودة، لا يتمتع بقدرة الانتشار والوصول إلى مناطق التضرر الحقيقي. وتمنيات زوال النظام أصبحت محل حديث واسع عند شرائح كثيرة من مجتمعنا المنهك، الذي أوشك على فقدان الأمل. أما المعارضة فالإقبال عليها متزايد، حتى في المناطق التي كانت ضعيفة الحضور فيها، بحكم سيطرة العقليات التقليدية المتحفظة، مما قد يزعج "المخزن"، ويدفعه إلى تأخير مستمر لمواعيد المهازل الإنتخابية، وتخبط لتبريرات دستورية واهية. وحديث هذه المعارضة أحيانا، لم يعد يقتصر على النقد السياسي النظري، وإنما أصبحت تطالب برحيل فعلي عاجل لولد عبد العزيز عن دفة الحكم. والمؤسسة الطلابية الجامعية تغلي في جانب كبير منها، بدفع من الإسلاميين وغيرهم، احتجاجا على تحويل المعهد إلى الداخل وتهميشه المتعمد في سياق التعليم الجامعي. والمؤسسة العسكرية أقحمت في حرب مكافحة الإرهاب، ربما قصد إشغالها عن ردة فعل محتملة على تردي الأوضاع الاجتماعية والسياسية في الداخل. وهيكل الديمقراطية أشرف على الهلاك، الأحزاب بلا تمويل، وأغلبها في محافظ متجولة، تدعم هذا وتعارض ذلك دون قصد أحيانا، تحت ضغط الحاجة الماسة الملحة. والصحف بلا مقرات ولا إشتراكات ولا دعايات منظمة، عادلة التوزيع. والنهب مستمر من قبل الأجانب وخواص النظام، خصوصا في القطاع المعدني المستباح، دون أن يكون للشعب أو الدولة ريع معتبر. مثل هذه الأوضاع تدفع عادة إلى تغيير في رأس النظام، على نمط من الانقلابات العسكرية، لكنها هذه المرة قد تستدعي تحركا سياسيا ملموسا مصاحبا، يفرض تغييرات جذرية، تمس المطالب المشروعة الاستعجالية وتحسن أحوال المواطنين، عبر طرح خطط تنموية واضحة ومقنعة. وفي انتظار هذا التحول المنشود، تبقى الأنفاس محبوسة تحت ضغط الواقع الحالي المرهق. ومن المنطقي ملاحظة حتمية حدوث هذا التغيير المرتقب بغض النظر عن طريقته، لأن الشعوب العربية في مجملها ملت حالة الاستبداد، وحرمانها من ثرواتها، واقتصار المنفعة المعنوية والمادية على زمرة محدودة من المنتسبين للأوطان، أغلبهم في دائرة السلطان. هذا هو الجامع المشترك بين ثورات الربيع العربي في مختلف الدول العربية، ولدينا خصوصية النظام العسكري المزمن، الذي لم يعد مقتصرا على كبار الضباط، وإنما تغير موقع النفوذ منذ 2005 إلى ساحة حراسة القصر الرئاسي، ليتجسد بعد انقلاب 2008، في شخص الحارس نفسه. مكرسا التمييز داخل صفوف الضباط، ومزجيا في العطاء والزلفى لبعض ذويه وبعض مقربيه، تاركا الأغلبية الساحقة للفقر وصنوف المعاناة. ورغم مناهضة الموريتانيين للعنف -بطبعهم- إلا أن الوضع مثير للفزع والترقب، لمن كان له عقل أو فهم سديد، خصوصا بعد حالتي حرق متعمد للنفس منذ انطلاق أحداث الربيع العربي. ولن تفوتنا في هذا المقام المطالبة بالتغيير السلمي المسؤول بعيدا عن الإنتحار ومسالك الفوضى، التي تشير إليها الوقائع عبر حالة الإنتحار الأخيرة وحرق الباصات، رغم اشتراك السلطة في المسؤولية بإصرارها على كرسي الحكم ورفض شروط الحوار الحقيقي المنقذ، مكتفية بما حصل من مهزلة لا ترقى إلى الحوار الجاد، وهدفها الأساسي القفز على خطر التغيير وإطالة عمر النظام. ولعل هذا الحاكم نفسه، لا يصلح للحوار أصلا، ليس فقط بحكم تكوينه العسكري الناقص، وإنما قد شهد له غير واحد، ممن لازمه وحاول صحبته في السابق، رفض النقاش وسبل التفاهم والحوار. بل يحسب نفسه مالكا لهذه البلاد، وصاحب الأمر الأول والأخير فيها، على نهج سائر الطغاة منذ فجر الدنيا وإلى اليوم. إنها غفلة الهيمنة والاستبداد، ولا تذهبها إلا ضربة الغاضبين ونقمتهم الوشيكة المنتظرة. لقد وصلت عجلة هذا النظام إلى أبواب مغلقة، ولم يعد لها من حراك إلا نحو مزيد من الفشل والتردي. ست سنوات من الهوان والحرمان والحكم الأحادي، ملها الجميع، ودفع ثمنها كل مواطن حر في هذا الوطن. فكيف يتوقع عاقل بقاء الحال على حاله. ساعة الصفر أزفت، وأبلغت بدنو أجل هذا الطغيان النكد. وكل من موقعه مطالب، بتحمل مسؤوليته، للإسهام الإيجابي في هذا المنعطف الحرج من تاريخ موريتانيا. التماسك الهش الذي يبدو في الواجهة لا يغر، فالأزمات تنخر هيكل هذا النظام القائم، ونصف ما يعاني، يكفي لإسقاط عشرة أنظمة، غير أن ضعف المحكومين ساعد مؤقتا في بقائه، ولكن أحداث الربيع العربي في الوطن العربي، وخصوصا في الإقليم المغاربي المجاور، شد عضد الرافضين للإستسلام وبقية القصة على الأبواب إن شاء الله. حيث أن التوتر المتزايد والإنسداد المتواصل، يوحي بقوة بحلول ساعة الصفر هذه. إن الرأي العام الوطني مطالب شرعيا بالسؤال عن مآلات الثروة، فكل المصادر الاقتصادية العليمة، تؤكد حصد شركة اسنيم وحدها أكثر من مليار دولار سنويا من خامات الحديد. فأين قرابة ثمانية مليارات دولار مقابل ست سنوات، فيما صرفت، وأين نتائج ذلك الصرف على أرض الواقع؟!. هذا سؤال مهم ينبغي طرحه بإلحاح وتفصيل، في الإعلام والبرلمان، وكل الأوساط المعنية. وليس الاقتصار على مبلغ خمسين مليون دولار، مساعدة سعودية سابقة، أكلت كما أكل غيرها في أوجه غامضة مجهولة. وفي هذا الجو من الاستبداد وإهدار المال العام والتعسف في كل وجه، من الجدير بالمعارضة وسائر القوى السياسية المسؤولة، عدم قبول الإنخراط في أي عملية انتخابية، تطيل عمر النظام، ويتحكم في نتيجتها، بكل سهولة ويسر، فتلك لعمري خدعة دكار الثانية، أو أكبر وأخطر بكثير. إن التصعيد الاحتجاجي المتواصل المتوقع، سيحقق رجاء المحرومين والمغلوب على أمرهم، بزوال رأس هذا النظام والنظام برمته، عسى أن تنطلق عملية إصلاح شامل، لكافة القطاعات المفككة المتخمة بالضياع والتخبط. ولعل ما تردد من تصرفات طائشة في وسط الحاكم العسكري نفسه، يشي بانطلاق زوبعة التفكك والانهيار الداخلي العميق، فمن عجز عن إصلاح بيته الخاص، من العبث أن يتشدق بشعارات محاربة الفساد ودعاوى لا أصل لها ولا فرع. ومن المستحيل غض الطرف بعد اليوم، فكل الأنظمة في عالمنا العربي، بدأت تعي بقوة الحاجة العاجلة للإصلاح الحقيقي، أو تجريفها ثورات الشعوب وغضبتها. تونس تغيرت، ليبيا ثارت وغيرت نظامها الديكتاتوري، والمغرب فهم الدرس وقام ببعض المطلوب قبل وصول الضغط إلى مرحلة اللاعودة. فكيف نظل جزيرة معزولة عن تأثيرات المناخ السياسي المجاور؟! وكيف تظل مؤسستنا العسكرية رهينة في يد عاجز لا يقبل التخلي عن مقاليد الحكم المغتصب؟! وكيف تقبل القوى المعارضة المدركة لأبعاد هذا الواقع الفاسد تضييع فرصة التغيير الحقيقي، مع إنطلاق مؤشرات ونذر التهلهل والتفكك؟؟ ساعة الصفر دقت، ومن الراجح المؤكد أن تصطاد فريستها في جو مسؤول، خال من الضغينة وتصفية الحسابات، فعندما يزمجر الشارع يهرب السجان، وتنطلق الأيدي والأرجل من أغلالها وقيودها. كما وقع في دول عديدة، وتجارب متكررة. ومن يرى ببصيرته، قبل بصره، لا تخفى عليه طلائع فجر التغيير والثورة. فالأصوات ترتفع بالشكوى من كل حدب وصوب، والنظام لم يعد يحكم حتى داخل حيطانه العائلية الخاصة. والجوع تزايدت قرصته، والصبر على القسمة الضيزى له حدود. فإلى أين المفر؟ الحل والمخرج الوحيد، هو نشدان التغيير السلمي الحضاري، وهذا هو مصداق القول، لقد حانت ساعة الصفر، اللهم آمين.