وساطة "عزيز" وتنحي "جامي" وتجييش "صال": هل تنجح موريتانيا في "حرب النفوذ" وفرض "الهدوء" على السنغال في سعيه لــ"الانتقام" ؟
يبدو أن الصراع غير المعلن بين موريتانيا وجارتها الجنوبية "السنغال"
على النفوذ في غرب إفريقيا على وجه التحديد قد أفصح عن نفسه بصورة مكشوفة من خلال مواقف البلدين الصريحة من أزمة الرئاسة الغامبية التي كادت تتحول إلى حرب غير محسوبة العواقب بإرادة سنغالية شاءت الانتقام من خصمها اللدود الحاج يحي جامي الذي توترت علاقات بلاده مع الوصاية السنغالية منذ قرابة السنتين وأكثر بعد أن ألغى الكونفدرالية مع داكار، حيث حشدت السنغال قواتها وقوات بعض حلفائها بحجة فرض تسليم السلطة للرئيس الغامبي المنتخب "آدم بارو" الذي أدى اليمين الدستورية من داكار رئيسا لجمهورية غامبيا بدعم وتشجيع من الحكومة السنغالية بغية الحضور مستقبلا في جارتها اللدودة غامبيا بعد "القضاء" على جامي ونظام حكمه الممانع.
السنغال كانت تنوي الدخول عسكريا إلى غامبيا، تحت غطاء الدفاع عن شرعية بارو، لكنها في الواقع دخلت لبسط نفوذها وفرض الرئيس اللاجئ إليها حتى تضمن منه رد الجميل، لكن صحوة موريتانيا وحرصها على البقاء دولة شقيقة لمختلف أشقائها ودفاعا عن مصالحها ومصالح القارة وشعوبها وحقنا لدماء الغامبيين والموريتانيين والسنغاليين وغيرهم، كانت أكثر واقعية وقبولا لدى مختلف الأطراف بما في ذلك الرئيس المنتخب "بارو" الذي رضي بالوساطة الموريتانية وبشروط يحي جامي للتنازل، رغم إنكار السنغال لذلك، وهي شروط موضوعية تحفظ له ماء الوجه وتضمن له حرية دخول بلده والخروج منه دون تدخل في الشؤون السياسية بما يخالف قوانين البلد كما تجنب غمبيا الحرب الحقيقة ومخاطرها.
الحل السنغالي أقوى من الأزمة
لولا تدخل نواكشوط في اللحظات الأخيرة، قبل دخول القوات السنغالية وبعض القوات "الرديفة" لكانت غامبيا الآن في حرب حقيقية، فحتى لو تخلى الجيش الغامبي والموالين منه للرئيس المتنحي يحي جامي عن رئيسهم لكانت قوات "كازامانص" السنغالية المطالبة بانفصال الإقليم عن السنغال، قد وجدت فرصتها في القتال إلى جانب المخلصين لجامي من أبناء قبيلته خصوصا من الضباط والجنود الذين يربطون مصيرهم ومستقبلهم بمصير الرئيس المتنحي، وبالتالي فستتضرر السنغال وغامبيا معا كما ستتضرر الجالية الموريتانية وكذلك المنطقة كلها، حيث ستتحول إلى بؤرة توتر جديدة، إذ لا شيء يضمن الحسم السريع وبأقل خسائر في أية حرب مهما كانت أطرافها، أحرى إذا كانت بالمواصفات السابقة، لكن لحسن الحظ أن موريتانيا حسمت موقف جامي وأقنعته بالمغادرة مع حاشيته وبذلك تدخل السنغال غامبيا بدون مواجهة.
صراع النفوذ
ترتبط داكار بعلاقات وثيقة مع المملكة المغربية الشقيقة من جهة وفرنسا من جهة أخرى، حيث تعتبرانها حليفا استراتيجيا لهما في غرب افريقيا وفي القارة، وهو تحالف غير قائم بين الرباط ونواكشوط ولا بين نواكشوط وباريس رغم علاقات الاخوة والصداقة التي تترنح وفق الظروف الإقليمية والملفات الساخنة، حيث ترفض نواكشوط توتير علاقاتها بدول الجوار كالجزائر الشقيقة لإرضاء الرباط أو باريس، كما ترفض الارتماء في أحضان الجزائر إغاظة للمغرب، وتتبنى في المقابل موقفا نديا وأخويا يحترم الجميع ويأخذ نفس المسافة من الشقيقتين في صراعها على الصحراء الذي تقف موريتانيا محايدة فيه حيادا إيجابيا، باعتبار أنها غير معنية سوى بالتنمية والاستقرار في المنطقة المغاربية والإفريقية والعربية وبمحاربة الإرهاب والتطرف والجريمة المنظمة، وهي ملفات تتقاطع فيها مع أغلب الأشقاء العرب والأفارقة وبعض الأصدقاء مع اختلافات في بعض التفاصيل.
ولأن موريتانيا استطاعت أن تجد لها حضورا قويا ومعتبرا في القارة السمراء وحتى في العالم، من خلال رئاستها الدورية للاتحاد الإفريقي وتأسيسها لمجموعة دول الساحل الخمس ورئاستها للجامعة العربية وحضورها في عدة ملفات شائكة وسعيها المتواصل لتسوية عدة معضلات إقليمية، فليس من المستبعد أن تكون السنغال قد رأت في ذلك "تطاولا" على قامتها ووزنها التقليدي بل ووزن المملكة وفرنسا الحليفين لها وبالتالي فقد شكل نجاح موريتانيا في الأزمة المالية وتوحيدها لجهود خمس دول إفريقية ساحلية ليس من بينها السنغال، وغير ذلك، رأت فيه تجاوزا لها بل وتهميشا لدورها كجار تشتبك مصالحه بمصالح موريتانيا اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وروحيا وهو ما لا ترضى به السنغال حتى ولو لم تفصح عن ذلك صراحة.
أزمة غامبيا تكشف المستور
ولكن الأزمة السياسية في غامبيا كشفت بالفعل أن السنغال كانت تطمح من قبل إلى الدخول ميدانيا إلى غامبيا من أجل إعادة السيطرة وفرض الكونفيدرالية ولو بطريقة غير مباشرة قد لا تعيد بالضرورة الاسم القديم "سينيغامبي" حيث تحمست للحرب منذ أول وهلة مدعومة بموقف فرنسي تحرك على مستوى مجلس الأمن وبعض دول الغرب الإفريقي إلى أن أعلن جامي التنحي. وقد فسر مراقبون هذا الموقف السنغالي بأن داكار تسعى للانتقام من الرئيس يحي جامي الذي عارض حضورها ومحاولات تدخلها في بلاده بعد أن أنهى الكونفدرالية معها، فتوترت العلاقات بين البلدين الجارين إلى أقصى الحدود وبالتالي كان من المهم أن يتم حسم المعركة ضد جامي وتسليمه لخصومه المعارضين الذين لجأوا إلى السنغال وأصبحا مرتهنين هناك في انتظار ساعة الحسم.
وهكذا تبين المواقف بشكل واضح لا لبس فيه، فالرئيس ماكي صال يريد التدخل العسكري في غامبيا والحسم بالقوة لصالح سياساته في هذه الجارة "المشاكسة" بينما يريد الرئيس ولد عبد العزيز الاستقرار وسلامة الجالية الموريتانية ومصالح موريتانيا وأمن المنطقة وهو ما شدد عليه خلال لقائه بالرئيس ماكي صال حين زار مطار داكار واجتمع بصال وبآدم بارو بعد لقائه بيحي جامي ليطمئن على أن مساعيه متواصلة وستتكلل بالنجاح. وهو جواب لم يرد صال أن يسمعه بل كان، وفق مراقبين، يتوقع وينتظر فشل مساعي نواكشوط وعودة الرئيس ولد عبد العزيز محبطا حتى يتاح للقوات السنغالية التوغل في بانجول والسيطرة على القصر الرئاسي والمراكز الحيوية في غامبيا بمبرر واضح ومقبول وهو رفض جامي تسليم السلطة للرئيس المنتخب. وهنا بات من الضروري أن يدرك كل طرف ما له وما عليه في مرحلة ما بعد أزمة الرئاسة الغامبية وما بعد التدخل السنغالي عسكريا في غامبيا وأن تنتهي التحرشات السابقة والراهنة والتي تلجأ إليها داكار فترد عليها نواكشوط بطرق ربما تكون أشد وقعا وإيلاما.
استفزازات سنغالية وردود موريتانية
ولعل بوادر الشد والجذب في العلاقات بين البلدين بفعل الصراع على النفوذ جاءت مبكرة عقب فوز ماكي صال في الانتخابات السنغالية، لكن المصالح الحيوية بين البلدين كانت في النهاية تتغلب على منطق الخلافات وضغوط الجهات الخارجية التي ترى أن مصلحتها تكمن في توتير العلاقات الثنائية بين موريتانيا وجارتها الجنوبية.
ولعل فرض ضرائب كبيرة على المنمين الموريتانيين ومواشيهم في السنغال، من بين حالات أخرى، كان من بين أبرز تجليات عدم التناغم بين داكار ونواكشوط، لكن رد موريتانيا كان قويا وضرب في الصميم مصالح السنغاليين حين ارتبط باتفاقية الصيد التقليدي وأثر على مصالح آلاف الصيادين التقليديين السنغاليين في المياه الموريتانية وبالتالي على المواطن السنغالي. إنه مجرد نموذج قريب لتجليات التوتر ولطبيعة المواقف الصارمة لموريتانيا لكنه يبقى عابرا بفعل تشابك المصالح بين البلدين والشعبين الشقيقين.
موريتانيا تفرض حضورها ووزنها الاقليمي
ومن خلال ما سبق يتضح أن موريتانيا فرضت نفسها قوة إقليمية حاضرة سياسيا من خلال رئاستها للاتحاد الافريقي وقبله مجلس السلم والأمن في الاتحاد ولجان الوساطة وتأسيس مجموعة دول الساحل الخمس والحضور الفاعل في المحافل الإفريقية والإقليمية والدولية فضلا عن حضورها العسكري لحفظ السلم والأمن في عدد من دول القارة ودورها الإيجابي في العديد من النزاعات بدول افريقية مثل مالي وغيرها.
وقبل ذلك من الضروري الإشارة إلى أن موريتانيا رفضت الخضوع لمشيئة باريس بخصوص أزمات المنطقة والتدخل الفرنسي في النزاعات الإفريقية وفي الصراعات الإقليمية وفرضت علاقات ندية وصداقة قوية لكنها حذرة مع فرنسا، وهو ما يسجل لها لا عليها.
وهكذا يتضح للسنغال ولبعض دول الجوار أن السياسة الخارجية لموريتانيا تسير في اتجاه حلحلة الأزمات سلميا وفرض كافة أشكال التدخل بالقوة ودخول الأجنبي في مشاكل القارة والحفاظ على المصالح المشتركة للدول الشقيقة والصديقة وفي مقدمتها مصالح موريتانيا لكنها في نفس الوقت قد تستخدم اللغة الخشنة والمواقف الصارمة في التعاطي الدبلوماسي مع ما يضر بمصالحها ومصالح المنطقة.