نصيحة اليوم – والنصح أغلى ما يباع ويوهب – تتعلق بما يجري في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، من قمع لطلاب العلم الشرعي وحملة القرآن الكريم من طلبة المعهد، الذين طالعتنا وسائل الإعلام بما تعرضوا له من ظلم وتنكيل وإهانة على أيدي الشرطة "الوطنية".
نتيجة اعتراضهم السلمي على قرار جائر بإغلاق قلعتهم العلمية العريقة، التي أحس أن في عنقي لها دينا وعلى كتفي من الوفاء لها حملا؛ حيث كان لي الشرف بالانتماء إليها والتخرج فيها، كما تخرج في كنفها العديد من الأساتذة المقتدرين والقضاة الموفقين، بل والعلماء الأجلاء والوزراء الأوفياء.. من أبناء موريتانيا الغالية. المدافعون عن المعهد العالي والمعركة المشرّفة معركة مشرفة حتى ولو خسروها.. أجل! إنها كذلك؛ لا أقول ذلك لأغريكم سيادة الرئيس بانتزاع هذه الورقة من أيديهم الطاهرة بالإعلان الصريح عن عودة المعهد إلى سابق عهده (أقصد عهد التأسيس والازدهار والعطاء) مفتوحا للمتسابقين وحملة الباكلوريا وبطاقم إداري جاد ووصاية وزارية مسؤولة وبدعم حكومي مادي ومعنوي مشرّف يذكر لكم فيشكر، فحسب.. بل أقول ذلك لأنها الحقيقة والحقيقة الواضحة لكل ذي عينين.. إن خروج طلبة العلم الشرعي وحملة كتاب الله العزيز – من أمثال هؤلاء – للتصدي لشرف الدفاع عن مؤسسة علمية بحجم وأهمية المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية، بصدورهم العارية إلا من نور العلم، وأيديهم الفارغة إلا من الإيمان بقضيتهم، لم يترك مجالا لذي عقل سليم أو رأي سديد لوصف معركتهم إلا بكونها معركة مشرّفة حتى ولو خسروها. لا قدر الله. رمزية إغلاق المعاهد الشرعية يرتبط إغلاق المعاهد الشرعية والمؤسسات الدعوية ومضايقة الشباب المتوضئين من طلبتها وخريجيها، ومطاردتهم وإمطارهم في الأزقة والطرقات بالغازات المسيلة للدموع ومحاولة النيل من مصداقيتهم وصدقهم ... يرتبط في أذهاننا – معشر الموريتانيين ـ ببداية أفول نجم النظام القائم على هذه "اللعبة" الخطرة، وهو ما أخاف/ بل أتوقع أن أعداءكم سيادة الرئيس وخصومكم من داخل النظام يدفعون بكم إلى أن تتورطوا في "بطولة" من هذا النوع. لقد أغلق النظام الأسبق – مع بدايات الألفية الثالثة - العديد من المعاهد والمراكز الشرعية وأبدع في مضايقة هذه الوجوه المتوضئة والأيادي الطاهرة (أقصد أبناء الحركة الإسلامية المعتدلة في موريتانيا) كما أمعن في التشهير بها والتشكيك في نياتها تجاه وطنها وأمتها، مستعينا بكل ما وصلت إليه يداه القصيرتان من "رجال أمن" وأشباه صحافة وأنصاف فقهاء... ثم ما لبث أن حاق المكر السيئ بأهله وأتى الله بنيان هذا النظام من القواعد، ومن حيث لا يحتسب. فارق التوقيت! متابعة للنقطة أعلاه، وعلى ذكر الخيبة التي مني بها النظام الأسبق من هزيمته في الحرب القذرة التي شنها - بدون هوادة - على المعاهد والمدارس الشرعية، ثم على هؤلاء الشباب وأضرابهم من حمَلة المشروع الإسلامي المعتدل، فإنه لا يفوتني - للإنصاف – إلا أن أسجل بتقدير كبير جودة قراءة ذلك النظام للأوضاع الجيو- سياسية يومها، ومحاولته الذكية (وإن كانت غير مشرفة) لركوب موجة الحرب على "الإرهاب" والمضايقات الدولية والإقليمية لكل ما هو إسلامي، للحصول على مكاسب مادية من حرب كان يعتقد أن نتائجها محسومة سلفا لصالحه. أما اليوم، ومع التغيرات الدولية والإقلية والمزاج الشعبي والإعلامي – العربي والدولي - فإن التورط من حرب من هذا النوع لا يعدو كونه انتحارا سياسيا وأخلاقيا في حق من يقدم عليه؛ مقدما لأعدائه ورقة رابحة لاستخدامها في توتير الأجواء وتبرير الانقضاض عليه! ومع فارق التوقيت لصالح النظام الأسبق، فإن حربه تلك على هؤلاء الشباب و"إخوانهم" من حمَلة المشروع الإسلامي المعتدل في موريتانيا لم تنكشف عن خاسر واحد هو النظام الأسبق، وإنما انكشفت عن خاسرين كثر من الطبقة السياسية والعلمية والثقافية والإعلامية الذين زج بهم النظام حينها في هذه الحرب القذرة. الرجوع إلى الحق إن رضوخ الحاكم لرغبة شعبه الصادقة وتراجعه عن الخطأ تحت وطأة اعتراض هذا الشعب على إجراء ظالم أو خطوة غير موفقة اتخذها، ليست هزيمة ولا مذمة في سيرة الحاكم، كما يحاول البعض (كما أتوقع) أن يصورها لكم – سيادة الرئيس - بقدرما هي محمدة ورجوع إلى الحق وابتعاد عن المكابرة والعزة بالإثم.. إنني أربأ بكم سيادة الرئيس أن يسجل التاريخ مسؤوليتكم عن قرارات تدخل في إطار محاربة التدين وأهله أو محاولة ما يطلق عليه الخبثاء "تجفيف المنابع الدعوية والشرعية" بنظرة ضيقة تسعى للتضييق على فريق سياسي معين، في حرب أثبتت التجارب العملية أنها حرب خاسرة حتى في تحقيق هذا الهدف؛ حيث لم تؤد تجربة ولد الطايع في هذا الإطار إلا لنجاح الإسلاميين – ربما وبدون رغبة منهم – في احتكار شرف تمثيل الإسلام والدفاع عن مقدساته ومؤسساته في أعين الموريتانيين الذي فتحوا عيونهم ذات يوم، فإذا بهم أمام مشهد لا غموض فيه ولا لبس؛ مؤسسات شرعية وعلمية ومقدسات وحرمات دينية تنتهك ويستخف بالقائمين عليها من طرف السلطة الحاكمة.. وإذا الناس في الساحة السياسية والعلمية فريقان: فريق يقدم دماءه وأرواحه وأمواله وأعراضه في الدفاع عن مقدسات الإسلام ومؤسساته هم الإسلاميون، وفريق (من الساسة والفقهاء والإعلاميين والوجهاء) يقف إلى جانب السلطة مبررا تصرفاتها الرعناء وتوجهاتها الحمقاء تجاه الإسلام ومؤسساته ومقدساته، حتى إذا هلكت صب جام لعناته عليها وعلى أيامها وانتظم في طوابير "مهيبة" لتقديم البيعة للمنقلبين عليها! فأي الفريقين أحق بالمصداقية في نظر هذا الشعب المسلم؟ بل وفي نظركم سيادة الرئيس؟ إنني أخشى أن يكون بين ظهراني مستشاريكم وطاقمكم العملي من يراهن على أن بإمكانه أن يعيدها جذعة من خلال الزج بكم في معارك من هذا القبيل أنتم ودولتكم وشعبكم في غنى عنها. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.