(رحل المستعمر عن بلادنا رحيل الذليل)، جملةٌ قرأناها و تعلمناها في المدرسة أيام الطفولة! و لم نك ندرك حينها أنها كانت جملة خبرية صادقة إذا ما طابقت الواقع ، وكاذبة حال مخالفتها إياه.هذا من حيث الأسلوب، أما من حيث المنطق فلم نك ندرك أنها جملة (خاطئة/كاذبة) من حيث صدقية قضيتها العرضية التي تطرح!
صحيحٌ أن المستعمر عن بلادنا رحل بعدته و عتاده، رحل بعساكره و آلياته الحربية، لكنه ترك فينا ما يضاهي قوته العسكرية أو يتفوق عليها، لقد ترك فينا لغته..تركها تتغلغل في مفاصل مجتمعنا الطيب، و تنخر عموده الفقري و تقطع أوصاله، و تتسرب كالسم الزعاف في أوردته و شرايينه!!
بها تعلم جيل الاستقلال و تثقف! و بها علم أبناءه و ثقفهم، و من أدران الثقافة الاستعمارية و (قماشتها) تشكل وعي أبناء طبقة عريضة من مجتمعنا العربي الإفريقي المسلم الأصيل. كانت مقاومتنا الثقافية للمستعمر ترتكز -إلى جانب أمور أخرى- على رفض لغته و محاربتها من جهة، و التشبث بلغتنا العربية الجامعة من جهة أخرى، فنجحنا في ذلك ظاهريا على الأقل حتى حصلنا على الاستقلال (التام/الناقص)، و لم نفق بعد ذاك بقليل إلا و المستعمر ثقافتُه و لغتُه تعششان في نظامنا التربوي ،و تبيضان في جهازنا الإداري، و تفرخان مواطنين أغرابا!! ينتمون إلى الوطن بدنيا، و يتبعون إلى المستعمر لغويا و فكريا.
و من أخطر مظاهر الاستعمار اللغوي البارزة بشكل جلي اليوم ظاهرة تسلل كلمات أجنبية إلى أحاديث نخبتنا في الإعلام و الصالونات و المنتديات و اللقاءات الثنائية و الجماعية، و حتى في مكالماتنا الهاتفية و دردشاتنا (التواصلية)..
ولو كانت هذه الظاهرة تمثل مصطلحات علمية، لقلنا : ربما رجع السبب إلى غياب الترجمة و التعريب، و من هنا تبرز أهمية الدعوة إلى إنشاء مجمع لغوي موريتاني، تلك الدعوة التي سبق أن أطلقها الخبير اللغوي المبرز الدكتور: إسلمو ولد سيدي أحمد في أكثر من مناسبة. ولكن المؤسف حقا أنها كلمات عادية من لغة التعامل اليومي، ولها في اللغة العربية مقابل، وأكثر من مقابل، ولا أستطيع أن أفسر ذلك إلا بكونه من رواسب "عقدة التخلف" ، وأن وراءه شعورا بالنقص أو الإفلاس اللغوي، مما يدفع الكثير من المتحدثين إلى توظيف بعض الكلمات الأجنبية في خطابه (دفعا لشبهة التخلف)، و تغطية على شعوره بالنقص، ولإيهام الآخرين بأهمية ذاته، و بأنه شخص متمدن!!.
و للتمثيل على تفشي هذه الظاهرة التي تعتبر من أوضح تجليات الاستعمار اللغوي، يمكننا أن نورد هنا بعض النماذج المتفرقة من قبيل:(بوتيك/حانوت أو دكان، المرصه/السوق، صافا/كيف الحال؟، ريبورتاج/تحقيق صحفي أو تحقيق مصور، كاميرا/آلة تصوير، تلفون/هاتف، كرطابل-صك/حقيبة، أس أم أس/رسالة نصية، فيتو/حق النقض .....إلخ)
و الأدهى من ذلك و الأمر هو شيوع استخدام هذه الكلمات و تأصلها في لهجاتنا العامية و غزوها الفتاك للغاتنا الوطنية، و تعودنا على استخدامها بيننا تحدثا و كتابة دون أن تكون هناك حاجة تدعونا إلى ذلك! إذ من المفروض ألا نتحدث بلغة أجنبية إلا مع الأجنبي، فكيف نقبل التخاطب بيننا بلغة غريبة عنا بكل المقاييس؟؟.
لا زلنا – منذ الاستقلال إلى اليوم- نستخدم لغة المستعمر في مراسلاتنا الإدارية الداخلية..في بياناتنا و مقرراتنا و تعميماتنا و بلاغاتنا و إعلاناتنا..في كل مجال من مجالات التعامل الرسمي (المنطوق و المكتوب) تقف لغة المستعمر شاخصة معلنة أن الاستعمار لم يرحل إلا ليبقى و يترسخ!!
و باعتبار اللغة هي وسيلة التبليغ الأساسية في الخطاب السياسي، و هي المعول عليها في التأثير على المتلقي. وتغيير سلوكه تبعاً لذلك، حافظ المستعمر على استمرار لغته و بقائها حية متداولة في المستعمرات السابقة، و حشد لذلك ميزانيات ضخمة و وسائل متعددة. و ما حضور المركز الثقافي الفرنسي و حملات التحالف (الفرانكو- موريتاني) إلا مثالا حيا على اهتمام المستعمر ببقاء لغته و نشرها ، بل و التمكين لها و فرضها و إن بطرق دبلومسية (غير مباشرة)، حيث سعت فرنسا-و تسعى- إلى انتهاج سياسة لغوية استعمارية تحاول أن تخفي جذورها وأبعادها تحت غطاء شعار التعاون الدولي، معتمدة في تنفيذ هذه السياسة على استغلال (السلاح المالي) لأجل حماية مصالحها السياسية والاقتصادية تارة، و معتمدة على التلويح بإثارة القلاقل و البلابل و الفتن من خلال دعم المنظمات العنصرية المتطرفة تحت يافطة مناصرة حقوق الإنسان تارات أخرى.
هكذا ندرك أن الاستعمار اللغوي مستمر و متواصل، بل يزداد عمقاً وتأثيراً مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال، ولا أحد يشعر بخطره. فما السبيل إلى مقاومته و محاربته و القضاء عليه حتى (يرحل عن بلادنا رحيل الذليل)؟!
إن الأمة التي تحترم نفسها، وتحرص على تحقيق هويتها يجب عليها أن تحترم لغتها، ولا تسمح بمثل هذا الاستعباد اللغوي، ولننظر إلى الفرنسيين الذين يرفضون بشدة استخدام لغة غير الفرنسية في الخطاب والتعامل، بل فرضت عليهم الدولة عقوبات على من يفعل ذلك، ولا تسمح بالترخيص لأي محل أو شركة أو مؤسسة لا تحمل اسما فرنسيا.
يقول المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون : ( إذا ما استعبدت أمة ففي يدها مفتاح حبسها ما احتفظت بلغتها)، فاللغة إذن مفتاح الحرية، والسيطرة اللغوية علامة الاستعباد، وقد تحررت الشعوب من الحكم الأجنبي ولكنها بقيت مقيدة بأغلال الاستعمار اللغوي الفكري .
و للتحرر من قيود الاستعمار اللغوي يتعين علينا إيلاء عناية خاصة للرصيد اللغوي المتعدد، وتقليص تكاليف تشتيت الجهد واعتماد اللغة العربية في التدريس و الإدارة والإعلام والإشهار باعتبار رصيدها وامتدادها الجغرافي وكونها لغة موحدة لجميع مكونات المجتمع الموريتاني، بدل أن تكون لغة جماعة بعينها. كما يجب علينا العمل على تنزيل مقتضيات الدستور التي نصت عليها المادة السادسة، وتفعيلها رسميا دون تخوف أو تهيب. و لا ينقصنا كي نصل إلى هذه المرحلة من الوعي اللغوي سوى امتلاك الشجاعة و الإرادة الصادقة.
فاللغة العربية تكسب في كل يوم متعلمين جددا، حتى شرعت جامعات أوربا وأمريكا تدخلها في برامجها التعليمية، وتجعل منها لغة ثانية أو ثالثة في التعليم ،والشعوب الإفريقية والأسيوية تقبل الآن بجد على تعلم اللغة العربية، وكل يوم يزداد عدد قرائها وعدد المتكلمين بها، لذلك لا يمكن أن تغيب عنا هويتنا الوطنية المتمثلة في تشبثنا باللغة العربية، لغة القرآن الكريم، ولغة تاريخنا وحضارتنا وثقافتنا الإسلامية.
أما اللغة الفرنسية فقد أصبحت تحتل موقعا متأخرا في العصر الحديث، حيث ظلت في الرتبة التاسعة ضمن لغات العالم الحية من حيث عدد المتحدثين بها، وهم يشكلون نسبة 2.5 % من ساكنة العالم، في حين تقدمت اللغة العربية عليها و احتلت المرتبة السادسة بعد اللغات الصينية والإنجليزية والهندية والإسبانية والروسية، وبلغ عدد المتكلمين بها ما يقارب 3.9 % في المائة من سكان المعمورة.
والدستور الموريتاني –كما أشرت آنفا- ينص بكل وضوح على أن العربية لغة وطنية رسمية للجمهورية الإسلامية الموريتانية، لكن العكس –كما يظهر- هو الصحيح أمام كل متتبع لشأننا اللغوي، ويتبين لك ذلك عندما تقصد إحدى الإدارات الموريتانية و تتفحص وثائقها و أرشيفها و مراسلاتها و سائر معاملاتها الجارية، فستذهلك الحقائق على الأرض !!
لذلك، أدعو المسؤولين المعنيين إلى سن قانون بالعقوبات الصارمة التي تتضمن إلى جانب الحبس: (غرامات مالية، سحب رخص العمل، تشميع المحلات، والمقاولات، التي تكتب عناوين مؤسساتها باللغة الفرنسية فقط، أو أية لغة أجنبية أخرى)، ليتسنى للغة العربية في وطننا الغالي التمكين و الانتشار والتداول على نطاق واسع، و لكي ننجح في معركتنا ضد لغة المستعمر.
فليس من المعقول أن يرتفع الإقبال على اللغة العربية في العالم أجمع، ويعرض عنها في عقر دارها!!.
إن اللغة العربية في بلادنا تعرف انتكاسة حقيقية، على العديد من المستويات، و نحن مقصرون في الحفاظ على لغتنا الوطنية الدستورية، بل لعله يوجد من ضمننا من يحارب اللغة العربية. فهل هذا مما يخدم السلم الأهلي الذي كثر الحديث عنه هذه الأيام؟؟ و هل تخدم معاداة العربية الوحدة الوطنية و اللحمة الاجتماعية؟! وهل يرسخ تهميشها و تجاوزها قواعد الأمن الفكري والاستقرار المجتمعي ويبعد الوطن و الشعب عن الهزات والتوترات والأزمات؟؟ هذه جملة أسئلة أعترف لكم تماما أنها محيرة للغاية!!
و في خضم مواجهة هذا الوضع الصعب يمكن أن نقترح جملة من الإجراءات الكفيلة بالخروج بنا من هذا النفق اللغوي الخاضع للأجنبي إلى فضاء لغوي سيادي مستقل، و ذلك من خلال اتباع الخطوات التالية:
• إقرار سياسة حكومية لغوية تحفظ مكانة اللغة العربية كلغة وطنية و لغة رسمية و تضمن حمايتها، طبقا لمقتضيات المادة السادسة من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
• دعم و تشجيع اللغات الوطنية و العمل على تدريسها و إحياء كتابتها بالحرف العربي كما كانت قبل مجيء الاستعمار.
• تعريب الإدارة تعريبا شاملا بما في ذلك المراسلات الخارجية.
• العمل على استخدام اللغة العربية في كل المناسبات و التظاهرات الوطنية في جميع المجالات، مع الحرص على تجنب الترجمة إلى اللغة الفرنسية و الاستعاضة عنها بالترجمة إلى اللغات الوطنية إذا اقتضت الضرورة.
• محاربة كل أشكال و مظاهر الاستعمار اللغوي الموجه، و العمل على خلق بدائل لمجالات و سبل التعاون ذات الصلة.
• إلزام المسؤولين بإلقاء خطبهم و كلماتهم الرسمية في المحافل الإقليمية و الدولية باللغة العربية.لأننا نلاحظ –للأسف الشديد- أن بعض المسؤولين الرسميين من ذوي الرتب العالية دأبوا على استخدام لغات أجنبية في المنظمات الدولية، وكأنهم يريدون أن يشيروا بذلك إلى أنهم يعرفون لغة أجنبية، مع أنهم يصبحون مهانين في عيون الآخرين لأنهم لا يتحدثون لغة قومهم.فلابد إذن من مد الأطر و المسؤولين و الموظفين عامة بشحنة من الشجاعة و الجرأة و الثقة في النفس و الثقة في هذه اللغة الجميلة الأصيلة.
• العمل على خلق هيئات لغوية وطنية (المجمع الموريتاني للغة العربية ، الأكاديمية الوطنية للغة العربية...) و توجيهها إلى ترجمة و تعريب المصطلحات الأجنبية و تفصيح العامية، و توحيد المفاهيم و أسماء الأعلام كتابة و نطقا. فخلق مثل هذه الهيئات و إبرازها إلى الوجود هو الكفيل بتيسير هذه اللغة ومنحها الجاذبية و المكانة اللائقة.
• إعادة النظر في إصلاح المنظومة التربوية (1999) و مراجعته مراجعة جذرية شاملة تمكن في النهاية من تدريس كافة المواد العلمية في المرحلتين الأساسية و الإعدادية باللغة العربية بوصفها لغة حاملة، و إدخال تدريس اللغات الوطنية في جميع مراحل التعليم النظامي (الأساسي – الإعدادي- الثانوي- العالي) إضافة إلى إدخال تدريسها في مؤسسات التكوين المهني (المدرسة العليا للتعليم- المدرسة الوطنية للإدارة و الصحافة و القضاء- المدارس الوطنية لتكوين المعلمين- المدارس الوطنية للصحة).و يجب أن تُعنى هذه المراجعة الشاملة بزيادة الاهتمام بتدريس اللغات الحية الأخرى (الفرنسية-الإنجليزية-الإسبانية-الصينية) جنبا إلى جنب مع اللغة العربية في كل مراحل التعليم، تدريسا مُكثفا يحقق أهداف التنمية الشاملة و يضمن الانفتاح على الحضارات العالمية و يساهم في الولوج إلى مختلف مجالات المعرفة بيسر وسهولة و سلاسة.
• تحريم استخدام العامية في المدرسة الجمهورية، و في المدارس الخاصة، و تشجيع التلاميذ و الطلاب من مختلف الأعمار و المستويات على التكلم بالفصحى و استخدامها في تعبيراتهم الشفهية و الكتابية.
• إطلاق حملات إعلامية واسعة لتعريب الأسماء الحقيقية و المستعارة للمستخدمين على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، و السعي إلى القضاء نهائيا على استخدام الحرف اللاتيني في كتابة اللغة العربية أو اللغات الوطنية أو اللهجات العامية خلال هذه الوسائل.
عاشت لغة القرآن الكريم معززة مكرمة محفوظة و مصانة...
لا للاستعمار اللغوي...لا للاستعمار اللغوي...لا للاستعمار اللغوي.
علي مختار اكريكد
اكجوجت، 24 يناير 2017