شاع في الآونة الأخيرة استخدام بعض المصطلحات استخدامات خاطئة أو على الأقل عامة وسطحية منها مصطلح التمييز الإيجابي la discrimination positive الذي أصبح يستخدم كما اتفق دون الوعي بدلالاته الفلسفية والسياسية والقانونية العميقة مما أدى إلى إفراغه من مضمونه وأصبح يستخدم
في بعض الأحيان لغرض التشويش وتمييع بعض القضايا ليس إلا. فما المقصود بالتمييز الإيجابي ؟ وكيف نستخدمه في سياق خاص مثل السياق المتعلق بآثار العبودية في موريتانيا ؟
مبدأ التمييز الإيجابي يتجاوز البعد السياسي إلى الممارسة اليومية والسلوك الاجتماعي الذي نمارسه كل يوم في حياتنا: داخل الأسرة بين أبنائنا وفي مواشينا بين أفراد القطيع...بحيث لا يخلو أي مجال من مجالات الحياة من تطبيق هذا المبدأ بشكل أو بآخر.
ومبدأ التمييز الإيجابي باعتباره شكلا معينا من أشكال العدالة التوزيعية هو الآلية التي تسمح للأقل حظا في المجتمع بالاستفادة أيضا من التفاوت طالما أنه لا مناص منه : إذن هو المبدأ الذي يمنع التفاوت الاجتماعي والاقتصادي من أن يكون على حساب الأقل حظا في المجتمع.
وبناء على ذلك فإن مبدأ التمييز الإيجابي هو المبدأ الذي يتم العمل به في حالات استثنائية يتعذر فيها العمل بمبدأ المساواة أمام القانون لظروف موضوعية وبالتالي فهو الآلية التي تمكن من خلق الظروف المناسبة للعمل بمبدإ المساواة أمام القانون وتجعل التساوي أمام الفرص أمرا ممكنا من الناحية العملية.
وقد عرف جون رولز في كتابه "نظرية العدالة" مبدأ الفرق المؤسس للتمييز الإيجابي بقوله : "يجب أن تكون الفروق الاجتماعية والاقتصادية في ذات الوقت في مصلحة الجميع وخاصة الذين هم أقل حظا في المجتمع" وعليه فإن التفاوت لا بد أن يكون في مصلحة الجميع وخاصة الذين هم أقل حظا في المجتمع وهو ما يتطلب القضاء على الهوة الشاسعة التي تفصل بين الأغنياء والفقراء أو على الأقل بقاء المسافة ثابتة بين الأكثر ثراء والأقل حظا في المجتمع.
هكذا يكون الشرط الأساسي في التمييز الإيجابي هو أن يحقق العدالة للجمهور المستهدف وأن تنجم عنه مصلحة عامة متعدية.
لكن في حين يضمن المفهوم الصحيح للتمييز الإيجابي مصلحة الجمهور المستهدف وإنصافه ومن ورائه المصلحة العامة للجميع على المدى البعيد يؤدي المفهوم السلبي للتمييز الإيجابي إلى انعكاسات سلبية على المصلحة العامة (لأنه يكون على حساب الآخرين) وعلى مصلحة الجمهور المستهدف ذاته (لأنه يخلق لديه حالة دائمة من الضعف وانتظار المساعدة لن يكون في مقدوره التخلي عنها بعد ذلك).
لكن المشكلة هي أننا أصبحنا نرى بعض الشخصيات السياسية المرموقة من الحراطين وغيرهم لا تفهم من التمييز الإيجابي سوى المفهوم السلبي الذي يختزل التمييز الإيجابي في التمييز في الوظائف كما يحدث مع النساء والمعوقين وغيرهم من الفئات الهشة في المجتمع ( تخصيص نسبة معينة للنساء وبعض الفئات الهشة الأخرى في المسابقات وغيرها بغض النظر عن الكفاءات المطلوبة) هذا النوع من التمييز ليس في الحقيقة تمييزا إيجابيا لأنه لا يتضمن على المدى البعيد أمورا إيجابية للجمهور المستهدف ولا للمجتمع في كليته.
صحيح أن المرأة الموريتانية عانت ولا تزال تعاني من ثقل الموروث الاجتماعي الذي يكبلها وخصوصا في الريف: التسرب المدرسي، الزواج المبكر، العادات السلبية المناهضة لخروج المرأة في بعض الأوساط الاجتماعية...إلخ وتكمن المعالجة الصحيحة لمشكلة المرأة في موريتانيا في البحث في أصل المشكلة وجوهرها وليس في مجرد أعراضها الظاهرة فحسب كما يحدث الآن . وتقتضي معالجة المشكلة من جذورها التساؤل حول أسبابها ومحاولة القضاء عليها : الفقر والأمية المنتشرة في أوساط الآباء بالإضافة إلى بعض الأسباب المتعلقة بغياب الوعي المدني والسياسي في أوساط الشعب والفهم الخاطئ للنصوص الدينية التي تدعو إلى العمل...إلخ.
وبالمثل فإن معالجة آثار الاسترقاق بتخصيص نسبة من الوظائف في الدولة وحصة في الأئمة وأحيانا في "العلماء" للأرقاء السابقين مع انعدام الأهلية لديهم لا يخدم مصلحة الجمهور المستهدف ولا المصلحة العامة بل يأتي بآثار سلبية على الجميع.
والحال أن العبودية في موريتانيا تختلف عن العبودية في أي مكان من العالم في أمور كثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
- تطاول الحقب التاريخية لممارسة هذه الظاهرة واستمرارها على مدى قرون عدة الأمر الذي أدى إلى جملة من التراكمات السلبية يصعب إزالتها بسهولة.
- الوزن الديمغرافي لضحاياها المباشرين وغير المباشرين : أقصد بالضحايا المباشرين المتأثرين مباشرة بآثارها الاقتصادية (غياب الملكية) والتربوية (الجهل والأمية وانعدام الكفاءات والمؤهلات العلمية الضرورية للحصول على نصيب عادل من الثروة الوطنية). أما الضحايا غير المباشرين فهم المتأثرون بآثارها الاجتماعية والنفسية طويلة الأمد (التراتبية الاجتماعية والمكانة الموروثة والنظرة الدونية ...إلخ).
هذه الاعتبارات وغيرها خلقت هوة كبيرة في المعرفة والثروة والسلطة بين ضحايا العبودية وغيرهم من فئات المجتمع الأخرى ستظل قائمة إذا لم يتم القيام ببعض السياسات الهادفة إلى إعادة التوازن إلى المجتمع ومحاولة التأسيس لحالة من المساواة الاجتماعية النسبية في ظل انعدام المساواة الأصلية.
- تجذرها في بعض النصوص الفقهية المرجعية في البلد والتي أصبحت تكتسي بعض سمات القدسية عند بعض "الفقهاء" وهذا هو مكمن الخطورة . وقد أصبح الانتصار للفقه المالكي لدى البعض مرادفا للحنين إلى تلك الممارسة والفقه المتعلق بها مما دفع البعض الآخر إلى الهروب منه والبحث عن حل في التشيع والأفكار الغنوصية الباطنية.
ومع أن الحديث عن "شرعية" وجود العبودية تاريخيا أو عدم شرعيتها في هذه البلاد لم يصبح بعدُ حديثا متجاوزا نظرا للاعتبارات التي ذكرنا إلا أن الموضوع الحقيقي في نظرنا هو السؤال عن شرعية بقاء تلك الممارسة ذاتها في الإسلام بعد القرن الأول في ظل وجود المنهج الواضح الذي رسمه الرسول (ص)علاوة على أنها تتعارض مع مبدأ الكرامة الإنسانية ذاتها الذي تقوم عليه جميع الأديان السماوية والشرائع الوضعية فالنصوص الدينية نفسها واضحة في تقرير الأسبقية المنطقية والزمنية للكرامة الإنسانية على الإيمان والمقدسات والأصول الاجتماعية للشعوب في قوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ وفي قوله : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ ومن الواضح أن العبارات الواردة في الآيتين "بني آدم" و "يا أيها الناس" لا تحمل صفة أخرى غير صفة الإنسانية المجردة المقصودة لذاتها أي صفة المخلوق الذي أمر الله تعالى ملائكته بالسجود له.
وفي اعتقادنا أن التخلص من ذلك الإرث الإنساني البغيض مرة واحدة وإلى الأبد لن يكون ممكنا إلا بوجود إرادة قوية صادقة لدى الجميع والإيمان بأن التخلص منه هو مصلحة عامة يقتضيها مستقبل التعايش والتماسك المجتمعي قبل أن يكون مسألة عدالة.
بناء على ذلك اقترحنا طريقتين للتمييز الإيجابي فيما يتعلق بآثار الاسترقاق من شأنهما القضاء تدريجيا على الهوة الكبيرة بين ضحايا العبودية وغيرهم من أفراد المجتمع ويمكن اختصارهما في المقاربة الاقتصادية - التربوية لأن الأبعاد التربوية والاقتصادية مرتبطة فيما بينها ارتباطا وثيقا كنا قد عبرنا عنه في مناسبات سابقة من خلال شكل من أشكال الدور المنطقي بالقول إن ضحايا الاسترقاق : لكي يتعلموا لا بد أن تتغير أوضاعهم الاجتماعية - الاقتصادية، ولكي تتغير أوضاعهم الاجتماعية - الاقتصادية لا بد أن يتعلموا ! وبالتالي سيظلون في حلقة مفرغة لن يكون في الإمكان الخروج منها إلا بتدخل الدولة من خلال تطبيق سياسة التمييز الإيجابي بمفهومه الصحيح في المجالات الاقتصادية والتربوية وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى خلق حالة معينة من المساواة والتوازن النسبي تسمح بالعمل بمبدأ المساواة أمام القانون لأن العمل بمبدإ المساواة في حالة اللامساواة الأصلية هو الظلم بعينه ولا توجد من الناحية النظرية طريقة أخرى تسمح للجميع بالاستفادة من المساواة أمام الفرص غير هذه.
1- المقاربة الاقتصادية : يمكن للتمييز الإيجابي في هذه المسألة أن يقوم على دعم النشاط الاقتصادي الأبرز الذي تزاوله الغالبية الساحقة من أفراد الشريحة المستهدفة وهو إجمالا : الزراعة المطرية وزراعة الخضراوات . ولن يكون دعم هذا النشاط بالطرق الصحيحة التي لا يتسع المقام لذكرها هنا حلا لمشكلة وتحقيقا للعدالة فحسب بل هو نفع متعد وهدف استراتيجي بعيد المدى سيستفيد منه عامة الشعب الموريتاني والدولة بأسرها وهي في أمس الحاجة إليه إنه تحقيق الأمن الغذائي والكل يعرف أن مخزون البلد من العملة الصعبة يتعرض للاستنزاف لأسباب لا معنى لها : استيراد الخضروات والحبوب من البلدان المجاورة التي لا تمتلك من الأنهار والمسطحات المائية ما نمتلكه نحن : إذن بهذه المقاربة نصيب عصفورين بحجر واحد : الإنصاف والعدالة للجمهور المستهدف من جهة والأمن الغذائي لعامة الشعب من جهة أخرى.
2- المقاربة التربوية : يهدف التمييز الإيجابي في مجال التربية إلى القضاء على الفروق الاجتماعية في مجال التعليم التي أصبحت واضحة للعيان : مدارس للأغنياء وأخرى للفقراء إن وجدت إذ أن هناك الكثير من أبناء الشرائح المهمشة لم يعرفوا أبدا طريقا للمدرسة لضرورات اقتصادية وثقافية : الطفل في "آدوابه" (قرى العبيد السابقين) لا يملك الكثير من الخيارات ولا يوجد أمامه سوى طريقين : طريق المدرسة أو طريق الحقل ! إذا اختار الطريق الأول مات من الجوع وإذا اختار الطريق الثاني مات من القهر ومات معه حلمه بالحصول على غد واعد وضاعت عليه فرصة التمتع بالمساواة أمام الفرص. أما الضرورات الثقافية فتتعلق بالخلفية المعرفية والثقافية للوالدين : الأسرة الجاهلة لا تنتج في الغالب أجيالا متعلمة .
للخروج من هذه المشكلة اقترحنا دائما الحل الذي اختارته العديد من الدول لمعالجة مشكلة فروق اجتماعية أقل خطورة من المشكلة التي لدينا الناجمة عن آثار الاسترقاق ويتعلق الأمر بإنشاء ما يسمى بالمناطق ذات الأولوية التربوية (Zones d’éducation prioritaires ZEP) وهو المشروع الذي قررت الحكومة الشروع فيه سنة 2014 وفقا للالتزامات التي فرضتها خارطة الطريق للقضاء على مخلفات الرق قبل أن تقرر حكومة المهندس يحي ولد حد أمين التراجع عنه على ما يبدو. وسنرى أيضا عندما نتعرض في وقت لا حق إن شاء الله لهذا النمط من التمييز الإيجابي المتعلق بالمناطق ذات الأولوية التربوية أنه ليس حلا لمشكلة وتحقيقا للعدالة فحسب بل هو الحل الاستراتيجي الذي في مقدوره أن يخرج تعليمنا من الأزمة التي يتخبط فيها منذ فترة طويلة : وهنا سنصيب عصفورين بحجر واحد أيضا : العدالة الاجتماعية الضرورية لضمان الاستقرار والأمن من جهة وإصلاح منظومتنا التعليمية من جهة أخرى.