باتت قضية المدعو محمد الشيخ ول أمخيطير قضية رأي عام، بعد أن خرجت جدران القضاء إلى فضاءات الميادين، وغدت للبعض أشبه ب "نهر الصابئة" الذي يُغتسل فيه من الخطايا السياسية و المهنية، وبعيدا عن محاولات استدرار مشاعر المسلمين، المفجوعين بفعل التطاول على مقدستهم و نبيهم الكريم،
سأحاول في هذه السطور تقديم مساهمة في الجدل القانوني، الناتج عن الاختلاف في تكييف الأفعال الجرمية المقترفة من قبل المسيئ،و قبل ذلك لا بأس من إعطاء لمحة موجزة عن التنظيم القضائي الموريتاني.
يعد مبدأ التقاضي على درجتين ( المحاكم الابتدائية و محاكم الاستئناف) أحد أهم ضمانات تحقيق العدالة، يمكن من تفادي تحصين الأخطاء التي قد تطال الأحكام و القرارات القضائية. من أجل ذلك سعت أغلب التشريعات إلى تكريسه، ومن ضمنها المشرع الموريتاني، الذي استفاق مؤخرا، فأدخل نظام التقاضي على درجتين في مجال المواد الجنائية، بمقتضى القانون رقم: 036 / 2007.
أما المحكمة العليا،فهي محكمة قانون، يقتصر دورها القضائي على مراقبة التطبيق الجيد للقانون.و إذا كان تحريك الدعوى العمومية ممكن للنيابة العامة و للطرف المتضرر كما نصت على ذلك الفقرة الثانية من المادة الأولى من مسطرة الإجراءات الجنائية الموريتانية، فإن ممارستها ( الدعوى العمومية)، يجب أن تظل حصرية على النيابة العامة، التي تنتصب مدعيا باسم المجتمع، و بالتالي فلا مجال " لدعاوى الحُسبة" في المجال الجنائي، لأنها ستؤدي إلى شيوع "فضالة الادعاء العام".
والأصل أن تكييف الوقائع من اختصاص قاضي الموضوع، لكنه خاضع في ذلك لرقابة المحكمة العليا. و قد عمدت النيابة العامة بولاية داخلت انواذيبو إلى تكييف الأفعال المنسوبة إلى المدعو محمد الشيخ ول أمخيطير على أنها " ردة" و قد نصت المادة: 306 من القانون الجنائي الموريتاني، الصادر بمقتضى الأمر القانوني رقم: 162 ـ83 ـ بتاريخ 9 يوليو 1983 على أن: " كل مسلم ذكرا كان أو أنثى ارتد عن الإسلام صراحة، أو قال أو فعل ما يقتضى أو يتضمن ذلك، أو أنكر ما عُلم من الدين ضرورة، أو استهزأ بالله أو ملائكته أو كتبه أو أنبيائه يحبس ثلاثة أيام، يستتاب أثناءها، فإن لم يتب حكم عليه بالقتل كفرا وآل ماله إلى بيت مال المسلمين..."
و لأن محكمة الموضوع غير ملزمَة بتكييف الأطراف، فقد اعتمدت المحكمة الجنائية بانواذيبو تكييفا آخر،أوصلها إلى توصيف الأفعال الجرمية المنسوبة للمعني على أنها " زندقة".
و بالرجوع أيضا للمادة: 306 نجدها عرفت الزنديق بأنه: " كل شخص يظهر الإسلام و يسر الكفر" وأردفت أنه " يعاقب بالقتل متى عُثر عليه بدون استتابة و لا تقبل توبته إلا إذا أعلنها قبل الاطلاع على زندقته ".
تقدمت النيابة العامة بولاية داخلت انواذيبو باستئناف لدى محكمة الاستئناف بنفس الولاية، ففصلت الأخيرة في القضية، و اعتمدت توصيف النيابة العامة للأفعال،فكيفتها على أنها " ردة" و لأن المرتد يستتاب كان على المحكمة أن تبت في توبته، فهي محكمة وقائع، فالمرتد يحبس ثلاثا و يستتاب أثناءها كما تقدم.
و هذا العيب الموضوعي، هو الذي ألحق العوار بحكمها و جعله عرضة لإلغاء الغرفة الجزائية بالمحكمة العليا في حكمها الصادر الثلاثاء 31 يناير 2017.
ـ تحليل الوقائع
نستنتج من مسار القضية المستند إلى وقائعها والأحكام الصادرة بشأنها أن الأساس القانوني لجميع هذه التكفييات ـ على اختلافها ـ هو نص المادة: 306 من القانون الجنائي الموريتاني، و بالتالي فالحكم، متغيرٌ تشديدا و تخفيفها بحسب التكييف الذي يمنح للفعل الجرمي، و التكييف " هو إعطاء الوصف القانوني الصحيح" (سامي بديع منصور، عكاشة عبد العال، القانون الدولي الخاص، الدار الجامعية،بيروت، ص:85).
فإن كُيف على أنه " ردة" عوقب فاعله بالحبس ثلاثة أيام يستتاب أثناءها،.. وإن كُيف على أنه " زندقة" قُتل إن ظُفر به قبل أن يعلن توبته و لا يستتاب.
وإذا تمعنا نص المادة: 306 ذو الحدين، نلاحظ أنه رتب حكم الردة على فعل إيجابي بالمفهوم القانوني، أي بصدور فعل أو قول: " ... ارتد عن الإسلام صراحة، أو قال أو فعل ما يقتضى أو يتضمن ذلك، أو أنكر ما عُلم من الدين ضرورة.." و من المعلوم أن النيابة، لم تضع يدها على المتهم، إلا بعد صدرت عنه أفعال خرجت من دائرة السر إلى الفضاء الالكتروني،و انتفض الشعب من شرق البلاد إلى غربها.
هذا من حيث وصف الفعل، ومن جهة أخرى،أردفت المادة أفعالا تُدخل صاحبها عداد المرتدين، حيث اعتبرت الارتداد عن الإسلام حكم من " استهزأ بالله أو ملائكته أو كتبه أو أنبيائه" و لا يمكن أن تخرج أفعال المسيئ عن هذا التوصيف، فالقاعدة القانونية و الشرعية، لها ضابطان: هما دخول الفعل دائرة التجريم، فلا عقوبة إلا بنص (م 4 جنائي)، و أن يكون الفعل موافقا للنص ليسهل إنزال العقوبة على مرتكب الجُرم، و مادامت "الردة " مترتبة على " الاستهزاء بالأنبياء" فاستنادا إلى قواعد المنطق، فإن الاستهزاء بالنبي محمد عليه أفضل الصلاة و السلام حكمه " الردة".
بينما نلاحظ أن ذات المادة، رتبت حكم الزندقة على فعل سلبي، بالمفهوم القانوني( الامتناع عن الفعل أو القول)، فالزنديق يكتم كفره و لا تصدر عنه أفعال علنية، فهو كما جاء في المادة: 306 " يسر كفره".
وعلى الرغم من الاختلاف البين في وجهي النص، فإنه يظل واضحا في حكمه، و لا اجتهاد في ظل وضوح النص، فضلا عن أن حرية الاجتهاد محدودة في ظل " سلطة" المادة:4 من القانون الجنائي التي تنص على أنه لا عقوبة إلا بنص.
لكن إلغاء المحكمة العليا لقرار محكمة الاستئناف وإعادته لمحكمة من نفس الدرجة، قد يُدخل الملف في دورة حياة قصيرة،تبدأ بصدور حكم آخر من نفس محكمة الاستئناف التي أصدرت الحكم الطعين في تشكلة مغايرة أو محكمة أخرى من ذات الدرجة، ويُعدم بقرار من الغرفة الجزائية بالمحكمة العليا، ذلك أنه بعد صدور القانون رقم: 012/ 2007، المعدل للقانون رقم: 035/ 99/ الصادر بتاريخ 24 يوليو 1999،لم يعد بإمكان المحكمة العليا أن تتصدي للقضية التي تعود إليها للمرة الثانية( انظر المادة: 223 من.ق.إ.م ت. إ).
و بالتالي يمكن أن تبت محكمة الاستئناف ذات التشكلة المغايرة، التي أحيل إليها الملف بنفس الحكم الذي أصدرته سابقتها، إذا ما اتحدتا في تكييف الأفعال الجرمية، وإذا تقدم الطرف الذي خسر الدعوى بطعن بالنقض، فستعود القضية للمرة الثانية للمحكمة العليا، ولأن الحكم وقع في نفس العيوب التي أدت إلى نقض سابقه،فستحكم المحكمة العليا بإلغائه و إعادته لمحكمة أخرى من نفس الدرجة، وهكذا تدخل القضية في حلقة مفرغة لا نهاية لها، قد تؤدي في النهاية إلى ترحيل الملف للمأمورية الثالثة أو ساكن القصر الجديد 2019.
وهكذا يظهر أن إلغاء نظام " التصدي" الذي كانت تمارسه المحكمة العليا قبل تعديل الإجراءات المدنية و التجارية و الإدارية بالقانون رقم:012/2007، و إن كان ينسجم مع دورها الرقابي و يمنع من تحولها إلى محكمة موضوع( تبت في الوقائع)، فإنه من الناحية العملية، قد يقتل الملف في غمرة التشكيلات المغايرة، وقديما قال أتشرشل " إذا أردت قتل فكرة فأنشئ لها هيئة".