في القرن الواحد و العشرين لا سلامة لبلد يريد الاستقرار في الحاضر و الرقي في المستقبل لا يقبل بالكشف فيه عن قضايا حقوق الإنسان التي يعاني منها سواء بسبب مخلفات النظم الاجتماعية القائمة على التراتبية أو اختلاف المعتقدات أو السياسية المتعلقة بقمع أحكام التعسفية التي طبقت حكما أحاديا
تسلطيا أو انتقائيا أو عنصريا أو عصاباتيا. إنها كلها الجرائم التي لا تُنسى أو يتم تجاوزها بالتقادم و التغاضي.
و إذ البلدان التي امتنعت، بفضل الثورة التنويرية الجديدة التي طلت العقول، عن مثل هذا الصمت على ملفات حقوق الإنسان فيها و طرحت بشجاعة كل قضاياها العالقة على طاولة التناول بالنقاش و الحوار و التوجه إلى التسوية و الحلول قد نجحت في إعادة البناء على أسس المساواة و العدالة و اللحمة و الوحدة، فإن التي ما زالت الأنظمة و الأحكام فيها تتلكأ عن مثل هذا التوجه السليم و لا تكترث للمد العالمي باتجاه التخلص من مثلها و ردع الشعوب داخلها عن التمسك بعقلية الأعراق السامية و التفاوت الطبقي الذي ينتمي إلى عصور خلت و عقليات ماتت. و إن المنظمات الحقوقية التي بدأت تنتشر في أجسام هذه الدول كالنار في الهشيم هي إعلان صريح للحرب على هذا الداء العضال الذي يمنع الإنسانية كلها من التمتع بحقوقها متساوية و العيش بكرامة و عطاء علما بأنها حقوق الجميع المترابطة و المتآزرة وغير القابلة للتجزئة و التي يجب أن تنال على قدم المساواة وبدون تمييز.
و قد ورد مصطلح "حقوق الإنسان" مرات سبع في الميثاق التأسيسي للأمم المتحدة، مما يجعل تعزيز هذه الحقوق وحمايتها غرضا رئيسا ومبدأ توجيهيا أساسيا لهذه المنظمة الأممية. و أما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فقد دخل في مجال القانون الدولي سنة 1948، و مازالت منذ ذلك الوقت هذه المنظمة العتيدة تعمل بتفان على حماية حقوق الإنسان من خلال الصكوك القانونية و الأنشطة الميدانية التي تساعدها على تحقيق ذلك و متمثلة في ترسانة من الآليات التي تريد الإحاطة بمجمل أوجه الأمر الحقوقي المتشعب، و من هذه الترسانة الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، الديمقراطية، الهيئات الأممية المسؤولة عن حماية حقوق الإنسان، مجلس الأمن، اللجنة الثالثة التابعة للجمعية العامة،الجمعية العامة، المجلس الاقتصادي و الاجتماعي، منتدى قضايا الشعوب الأصيلة، جهاز التنمية و السلم و الأمن و حفظ السلام و الشؤون الإنسانية، الهيئات المتعلقة بمعاهدات حقوق الإنسان، آلية تعميم مراعاة حقوق الإنسان، مجلس حقوق الإنسان، الأمين العام و ممثلوه عن، الأطفال و الصراعات المسلحة، العنف الجنسي في حالات النزاع، العنف ضد الأطفال، و اللائحة طويلة.
و لإن كانت ظروف الحروب و الثورات التحررية من الاستعمار الخارجي في بعض الدول و على الأحكام الاستبدادية التسلطية و الأنظمة الرجعية و الإقطاعية في بعضها الآخر عواملُ ظلت طويلا تمنع انتصار منطق و مبدأ انتشار حقوق الإنسان كما نصت عليها المواثيق الأممية و أوجبت العمل بمقتضاها على أرض الواقع، فإن واقع الشعوب المغلوبة على أمرها و في اللب منها و تحديدا الشرائحُ الدونية هو مسوغ بأوجه متنوعة من الحيف اجتمعت كلها و بما تمثله انعكاساتها الخطيرة على حياة الأشخاص النفسية و المادية ليبقى تحقيق هذه الأهداف بطيء التحقيق و أحوال المظلومين تعاني شتى أصناف الظلم بأدوات القهر التي لا تعرف هي الأخرى تناقصا أو نهاية.
و إنه بالنظر إلى هذا فإن انفتاح موريتانيا على المنظمات الحقوقية بمن فيها العربية و القارية و قبولها نقاش كل الملفات المتعلقة بوضعها الحقوقي ـ الذي هو رغم الذي يروج حولها ليس بأخطر مما هو الحال عليه في كثير من بلدان العالم ـ و العمل على تسويتها بما يتماشى و المواثيق الدولية، لا بد أن يؤتي أكله و تتناقص بموجب ذلك الفجوات بين شرائح المجتمع باتجاه توزيع العدالة على الجميع و التوجه إلى الاستقرار و اللحمة و بناء المستقبل المشترك في ظل ما سيفرضه أيضا ذلك من الديمقراطية الحقة و مرونة الديبلوماسية التي ستقدم حينها للبلد سمعة طيبة و تشيد سورا من الأمن قويا و ثابتا.