حدث أبو زيد الخبير قال: بينما كنت في المنزل ذات خميس، أقلب صفحة التلفزيون بحثا عن أنيس، إذ سمعت قرع طبول ودفوف، وزغاريد وتصفيق بكفوف. فقلت هذا ولا شك أمر سعد، و لله الأمر من قبل ومن بعد. فأرسلت غلاما إلى الجار، ليسبر كنه الأخبار. فما لبث أن عاد إلي يعدو،
و على وجهه السرور يبدو. فقال: أبشر أبشر يا أبا زيد، فقد تم تعيين أبي عبيد.
فلما صليت العشاء وفرغت من العشاء، تذكرت وصية جبريل بالجار، ونويت الذهاب إلى أبي عبيد في الدار، وقلت في نفسي إن الدين النصيحة، فدلفت إلي مكتبتي فتأبطت الصحيفة. و لما وصلت دار أبي عبيد وجدت الصالون يغص بالجلاس، وما فيه مكان إلا في أخريات الناس. فلوحت بيدي إلى أبي عبيد من فوق الرؤوس، وجلست أتفرس في الوجوه و أحتسي الكؤوس تلو الكؤوس. فوجدت في الصالون جميع صنوف البشر، من يشي منهم بالبداوة ومن يوحي بالحضر، وكلهم إلى أبي عبيد رامق، وحديثه إليهم رائق. يشنفون أذنيه بالإطراء والمديح، ويجملون في الطلبات بالتصريح و التلميح.
فلما تقضي الليل إلا أقله، وودع أبو عبيد حِبَّه وخِلَّه، وخلت الدار من الزوار، القاطن منهم و المار، دنوت من أبي عبيد، فهنأته بالمنصب الصيد ، وسألت الله أن يحميه من الكيد، و أن يعطيه من نعمه الزيد، وأن يبطئ عنه الفيد ، وأن يجنبه مزالق التسيير، وأن يعصمه من مساوئ التدبير.
ثم أخرجت صحيفتي من تحت الإبط، وكانت مطبوعة بعريض الخط. فقلت لأبي عبيد هذه صحيفتي، و قد ضمنتها نصيحتي، أعددتها للصديق، ليتخذها معالم في الطريق. فهي مني إليك هدية بمناسبة التعيين، فتقبل منى ما فيها برحابة صدر و لين، وعض عليها بالنواجذ وعلقها قرب المرايا والنوافذ.
ثم بدأت في قراءة الصحيفة على مهل، منتقيا أهم ما فيها من جمل. فقلت:
اعلم أعزك الله أيها المسيِّر، وكفاك بمنِّه كل ما يحيِّر، أن ميزانية الهيئة أمانة في يديك، وليست هدية لبطانتك أو والديك، فلو جلست في بيتك قطعا ما أهدي إليك. فأد الأمانة إلى أهلها، ووف الحقوق دقها وجلها.
و أحرص على الانتظام في صرف الرواتب، وأعلم أن صرفها من الفرائض لا الرواتب، ويسري نفس الحكم على المعاشات ومنح الطلاب، فلا تدنس عرضك بالتربُّح في هذا الباب. فاصرفها قبل موعد الحِل، وسو في ذلك بين الغريب والخِل.
ثم أضاف أبوزيد بعد أن نظر في وجه أبي عبيد:
و إياك والمورد الخدن والمحاسب الرُّدن . فأما المورد الخدن فهو ممون الإدارة الوحيد، تشتري منه كثير المؤونة والزهيد. تراه بين المكاتب يجر كـــُمـــَّه فتخال المسير خاله أو عمـــَّه. وأما المحاسب الردن فهو جليس المسيِّر بالبكرة والأصيل، و من دوره الرقابي في حكم المستقيل، همه لا يعدو تجهيز الوثائق، مبصومة بالعشرة دون عائق. فيُحِل بتلك الوثائق السداد، مجانبا بذلك التوفيق و السداد.
ثم أسرع أبو زيد في قراءته، متخطيا بعض فقرات صحيفته، فقال:
و احذر من الفواتير الوهمية، فما تحمل من ترقيم في الرأسية، صنوان و غير صنوان، وما فيها للمورد من رقم حساب ولا عنوان، ناهيك عن غياب رقم سجل الضرائب، وما حثت عليه المدونات من الرغائب. وحتى لو فازت كافة الوثائق بالتزكية والشهادة، فلا تحرم المشتريات من دخول المخزون في عالم الشهادة. و أقم نظاما لمتابعة المخزون، تدرأ الشبهات وتسلم من الظنون. ولا تشتر للإدارة إلا بناء على تعبير عن حاجة مكتوبٌ، و لا ينبغي أن تكون تلك الحاجة حاجة في نفس يعقوبٌ. وإذا أظلَّتك الأشهر الأخيرة من السنة، فلا تسرف في الشراء واترك دفتر الطلبيات في سِنة . واحذر صفقات التراضي ولا تجعلها وسيلة للمراضي.
ثم أردف أبو زيد قائلا:
وإجمالا على المسيِّر البصير، أن يحذر الوقوع في جميع أخطاء التسيير، وليتق لله في الدراهم والدنانير، وليعلم أن مِلاك حسن التسيير هو استشعار رقابة الخبير، والإكثار من ذكر يوم التلاقي، والتفاف الساق بالساق، ولحظة بلوغ التراقي، والبحث في الآفاق عن راقي. و ليعلم المسيِّر انه مسؤول حتما عن الأربع، مهما طال به المشي على رجلين أو على ثلاث أو على أربع.
ثم رفع أبو زيد نظره من جديد إلى أبي عبيد، فإذا به قد غلبه النعاس، ومال منه نحو الوسادة الراس. قال أبو زيد: فوضعت الصحيفة تحت وسادتة، و انصرفت قبيل الفجر من بيته، انصراف الوئــيد في مشيته.
محمدن ولد هَــلَّه