إن تصريحات "شباط" وزيارة بن كيران للاعتذار لولد عبد العزيز لم تكن سوى دخان من أجل التغطية على الجمر الموجود في قاع الحفرة، أي أنها مجرد مسرحية مغربية من أجل التغطية على ما كانت تعده المخابرات الفرنسية والمغربية والسنغالية بمباركة أمريكية و بريطانية ضد الدكتاتور المجنون
يحي جامي، وذالك لتلاقي مصالح هذه البلدان في إزاحة أقوى حليف لموريتانيا في المنطقة.
فبالنسبة للمغرب فإن اﻹطاحة بيحيى جامي هي أفضل عقاب لموريتانيا على مواقفها اﻷخيرة المناصرة للقضية الصحراوية، كما أنها تعتبر ضربة قوية للمحور الجزائري الموريتاني داخل منظمة الوحدة اﻹفريقيه. أما بالنسبة للسينغال فإن يحيى جامي هو عدوها للدود منذ وصوله للحكم في غامبيا، فهو الداعم الرئيسي للمتمردين في إقليم كازماس ،المطالببين باﻹانفصال عن اليسنغال مما جعلهم يشكلون شوكة قوية في خاصرة السينغال طيلة عقود من الزمن.
أما بالنسبة للدول الغربية فإن يحيى جامي عزف لها على نفس الوتر الذي كان يعزف عليه كل من " القذافي ""وموكابي" صاحبا سفونية " لاللإمبريالية "فيحيى جامي تجاوز كل الحدود وحاول أن يجعل من اللغة العربية لغة البلد الرسمية بدل اللغة اﻹنكليزية، وقرر إضافة إلى ذلك تطبيق الشريعة اﻹسلامية، وكما تعرفون فإن الدول الغربية تفضل ضرب مدنها و جيوشها على ضرب لغتها وثقافتها، وذالك لكون اللغة والثقافة هما الضامنان الحقيقيان لتبعية الشعوب ووسيلة السيطرة الناعمة على هذه الشعوب .
حين كانت مخابرات هذه البلدان الثلاث تمرح وتسرح في حديقة بيتنا الخلفية بل وحتى داخل بيتنا أحيانا، كانت مخابرات" أهل لخيام" تغط في نومها العميق، وكان ضباطها منشغلين بجلسات الشاي وشرب لبن اﻹبل وصيد اﻷرانب ( المدنية) واصطياد اﻷرانب البرية، هذا فضلا عن انشغالهم أيضا بالتخطيط في الكزرات واﻷحياء الراقية بدل التخطيط الإستراتيجي والحفاظ على اﻷمن القومي .
قدمت وزارة الخارجية والمخابرات حسب بعض المعلومات لولد عبد العزيز تقارير مغلوطة كعادتها تؤكد نجاح يحيى جامي، وأن اﻷمور تحت سيطرته، ولا شيء يدعو للقلق على الحليف القوى لموريتانيا، وفي مايبدو أن هذه التقارير كانت مجرد خلاصة انطباعات لبعض عمال سفارتينا في كل من بانجول ودكار، ولبعض رجال الجالية هناك ، و بعض رجال اﻷمن البسطاء أثناء شربهم للشاي في مكاتب إحدى السفارات، وهنا تظهر عدم كفاءة أجهزتنا اﻷمنية، وعدم مهنيتها، وضعف تكوينها. كما يتضح أيضا الفشل الذريع لقادة دبلوماسيتنا، وغياب التخطيط الإستراتيجي الذي يعمل على الحفاظ على مصالح البلد ومكانته في المنطقة من خلال دعم الحلفاء، والحفاظ عليهم، واستنزاف اﻷعداء عن طريق الحلفاء، دون الدخول معهم في مواجهة مباشرة، وهذا هو الدور الذي لعبه يحيى جامي طيلة عقود في فترة حكم ولد الطايع، وتلك إحدى حسنات نظام ولد الطايع القليلة، والذي كان يقدم الدعم للمتمردين في كازاماس للي ذراع السنغال كلما كانت هناك ضرورة لذلك، وقد أنتجت هذه السياسة نوع من التوازن في العلاقات المعقدة مع الجارة اللدودة السينغال،الحليف اﻹستراتيجي للمغرب، التابع المطيع لفرنسا، ومن هنا تشكل ارتباط قوي وتنسيق واضح بين هذه الدول الثلاثة، وخاصة فيما يخص علاقتها بموريتانيا.
أما ولد عبد العزيز فقد كان يقضي عطلته في ربوع تيرس الجميلة حيث كان يشم النسيم ويشرب لبن "الطير " ويأكل لحم "البعير "، وكأن موريتانيا قد أصبحت في عهده إحدى إمارات الخليج الغنية،أو "سويسرا" التي يحب رئيسها البادية ومما زاد المتعة نشوة قدوم بن كيران للإعتذار لعزيز في منتجعه التيرسي، وقد ثمن الجميع تلك الخطوة واعتبروها نجاحا لدبلوماسية الرجل، ودليلا على قوته، فتعتق البدوي في غروره و سخر المغربي في صمته من ذلك الغرور .
في ذلك الوقت كانت مخابرات الدول التي تسهر على مصالح بلدانها وضمان أمنها القومي تطبخ رحيل يحيى جامي على نار هادئة، لا دخان لها ولا لهب.
ضربت المغرب ولد عبد العزيز في مقتل حينما استطاعت أن تجعله يتوسط لإقناع يحي جامي بالرحيل، وبالتالي لم يعد بإمكان ولد عبد العزيز أن يفكر مستقبلا في البقاء بعد انقضاء مأموريته الثانية، وذلك على الرغم من أنه كان قد أعلن صراحة عدم ترشحه لمأمورية ثالثة، ولكن ذلك لم يكن كافيا، فالدول العظيمة لا تترك لخصومها مجالا للمناورة أو المحاولة.
كما أن السنغال وجهت هي اﻷخري طعنة قوية لوساطة ولد عبد العزيز، وذلك من خلال تقزيمها، وجعلها مجرد حبر على ورق بتدخلها العسكري في غامبيا ساعات بعد مغادرة يحي جامي في طائرة الوسيط الغيني، وهو الشيء الذي أثر في مزاج ولد عبد العزيز حينما ظهر في المطار مرتبكا وأقر بأنه "لم يعد يفهم من اﻷمر شيئا "، و في هذه نصدقك يا ولد عبد العزيز ﻷن الدرس كان معقدا والمدرس كان غائبا .
نجح أيضا السفراء الغربيون في نواكشوط في جعل ولد عبد العزيز يلعب دور المكنسة في غامبيا لصالح السينغال، وذلك حينما أوعزوا له بضرورة التدخل في اﻷزمة الغامبية ﻹقناع يحيى جامي بالتخلي عن الحكم والخروج من غامبيا .
يجب على النظام الموريتاني أن يعرف أن العلاقات بين البلدان تختلف عن العلاقة بين اﻷفراد والمجموعات كما أن علاقات الجوار من أصعب العلاقات الدبلوماسية تسييرا وأكثرها تعقيدا إذ تتشابك فيها المصالح وتؤثر فيها السياسة ويلقي عليها التاريخ بظلاله، وتكون للجغرافيا الكلمة اﻷخيرة ألا وهي "حتمية التعايش "، ومن هنا يجب على النظام الموريتاني أن لا يقع في أخطاء الماضي ويتبع سياسة ردود اﻷفعال اﻹنتقامية والتصعيد ضد الجيران حسب المزاج دون تبني سياسة خارجية واضحة المعالم تحافظ للبلد على مصالحه وتذود عن سيادته.
ليعلم "ولد عبد العزيز" أن التضييق على الجالية السنغالية في بلادنا إنما هو تضييق على جالياتنا في السنغال، بل وحتى في غامبيا الجديدة، فإن كانت للسينغال يد عاملة عندنا، فلدينا عندهم تجار ومستثمرون باﻵلاف، كما أنه لدينا طلاب في جامعاتهم ومرضى في مستشفياتهم لذا يجب النظر إلى اﻷمور من زوايا عدة قبل اتخاذ أي قرار قد تكون عواقبه وخيمة وتبعاته أليمة . لكن هذ لا يعني أن نتخلى عن سيادتنا أو مصالحنا في البلدان المجاورة، فعلا نحن نملك من أوراق الضغط على السنغال، أكثر مما تملك هي من أوراق الضغط ضدنا، ولكن المشكلة تكمن في سوء استعمالنا لهذه اﻷوراق، وحرقها باستعمالها في غير محلها، وفي الزمان الخطأ، الشيء الذي جعل بعض الجيران يتحدى سيادتنا بالتدخل في شؤوننا الداخلية بأساليب مختلفة وتحت عناوين شتى
. إن سقوط "يحي جامي" المفاجيء يعتبر بالفعل خسارة قوية لموريتانيا في المنطقة لكن ذلك لا يعني بأننا قد خسرنا كل شيء،ﻷن تقليل الخسائر هو ربح في حد ذاته، ويمكن أن يتم ذلك من خلال فتح صفحة جديد مع الحاكم الغامبي الجديد (بارو) من أجل إقامة علاقات دبلوماسية وطيدة تضمن مصالح البلدين والشعبين الشقيقين .كما أن الدبلوماسية الناجحة هي التي تبني علاقتها مع الشعوب، ولا تقتصر على الحكام فقط.
لقد برهنت هذه اﻷزمة أن أكلة (كوره) يصبرون على مضغ المر ليجدوا في نهاية المطاف حلاوة المذاق ، كما برهنت أن آكل (البرقوق) يجد لسواده حلاوة، في حين يبقى البدوي حائرا من أمره، وهو يطارد الحلاوة والمرارة في كؤوس شايه المنعنع !!!