شكل الانتقال من البادية وحياة الترحال والبحث عن المرعى نقلة كبرى في حياتنا كموريتانيين، حيث ينبغي أن يؤدي ذلك إلى اختلاف أسلوب العيش ونمط الحياة. وقد جسدت هذا الانتقال نقطة تحول بين مرحلتين متباينتين هما فترة الحل والترحال الدائم والبحث المستمر عن منتجعات أفضل لتربية
الماشية ومواقع أفضل للحياة من حيث المناخ والملاءمة للحياة الاجتماعية من جهة، ومن جهة ثانية فترة الاستقرار والتحضر والعمران ونشأة القرى والمقاطعات وعواصم الولايات وتأسيس العاصمة في مدينة نواكشوط، وبين هذه المرحلة الجديدة وتلك الفارطة ما زال البعض يتأرجح بين حنين إلى حياة الجمال والتوق إلى العصر التكنلوجي بهواتفه النقالة وسياراته الفارهة والمتوسطة وبقينا نبحث عن أنفسنا وعن قيم وسلوك الاستقرار في المدينة والتخلي عن مزايا وجماليات الحياة البدوية البسيطة والمختلفة عن نمط الحياة الجديدة في عصرنا الراهن.
لقد جاء تأسيس الحواضر والمدن الحديثة نتيجة الاستقلال الوطني وعلى أنقاض فترة من الجفاف وندرة الأمطار في صحاري موريتانيا الشاسعة. ومع طفرة التحضر والعمران التي حدثت وجد الإنسان والمواطن الموريتاني نفسه في احتكاك مباشر وتعايش مطلوب وضروري مع متطلبات العصرنة وحياة الدولة الحديثة والمدنية، وفي مواجهة مباشرة مع العولمة الاقتصادية والتجارية والثقافية والتكنلوجية.
ليس لدينا شك في قدرة الإنسان الموريتاني على التعايش مع طبيعة الحياة الجديدة ولكن قدرة الإنسان في التكيف والتضحية ببعض مزايا الفضاء المفتوح تتفاوت من فرد إلى آخر و من مجموعة إلى أخرى. وقد أضحى وجود السلطة المركزية وتنظيم مرافق الدولة وخدماتها وبسط سيطرتها على الإقليم الوطني أمرا واقعا، وهكذا سعت الإدارات المتعاقبة والحكومات المتناوبة إلى تنظيم حياة الناس وتسهيل ولوج الخدمات وتقديمها، فقد بذل المواطنون ما في وسعهم من الجهد والإرادة للانصياع لمتطلبات وأسباب الحياة المدنية والحضرية، ولكن مازال علينا مجتمعين عمل الكثير لكي نواكب هذه التطورات وننسجم مع قواعد اللعبة ونمط الحياة ونثبت القدرة على التكيف والتماشي مع مصالح بعضنا البعض ونبني جسور الالتزام بالسلوك الحضري وبمبادئ الحياة في المدينة.
ونقصد بالسلوك هنا التصرف وسماته أوسيرة المرء وحياته اليومية من حيث منهجه واتجاهه في علاقاته مع الغير، فيقال زيد حسن السلوك حضري المنهج وعمرو سلوكه تشوبه شائبة، وعلى ذلك فإن السلوك مرتبط بالإنسان أينما عاش وحيثما وجد، أما الحضرية أو المدنية فهي عكس الفوضوية والبداوة ونقيض الهمجية. ومن أمثلة السلوك المدني الراقي النظافة واحترام النظام وتقدير الآخرين والاعتراف بحقوقهم والتعايش معهم والشعور بالحقوق والواجبات المشتركة داخل المجتمع وبين أفراد الشعب ومكوناته من المواطنين أجمعين إضافة إلى التشبث بالقيم الاجتماعية الإسلامية والإفريقية والعربية الأصيلة والعمل بها بما تشمله من تضامن وتسامح وعدل ورأفة ورحمة ونبذ للعنف وللخلاف.
و على رأس نماذج السلوكيات المستشرية والمرفوضة في المدينة ووسط العمران والحضارة، والتي لا يمارسها الجميع طبعا، أنك ترى سائق السيارة التاكسي أو تلك الخصوصية أو الحافلة يتجاوز الإشارة الحمراء ويتجاوز السيارة التي أمامه من اليمين منتهزا تركيز السائق الأمامي على الطريق، وترى القمامة ترمى في كل مكان من الأسواق وجنبات الطريق العام ويحاصرك الذباب في المستشفى أو المركز الصحي والعيادة، وتلسعك الحشرات وأنت تمارس رياضتك أو تتمشى في أمان الله، ويزعجك كثرة البصاق هنا أو هناك وتجابه مشكلة في احترام أوقات العمل أو تقدير المواعيد وتوقيتها، وتشمئز من رمي القاذورات والبول قرب المسجد وتستغرب من اتساخ ملابس البعض حتى في صفوف الصلاة وتفاجأ عندما تسد أمامك طريق بسبب ركام البناء وأشغاله أو بسبب وجود سيارة عالقة نسيها صاحبها أو لم ينجح في توقيفها بشكل طبيعي، ودعك طبعا من مسيرات الحفلات الليلة وتهور الشباب وأصوات الميكروفونات المتواصلة بإزعاج هنا أو هناك، وقد تصدم عندما ترى بقايا الطبخ في شارع المقاومة أو بقايا نيران في عرائش ضواحي العاصمة أو في منطقة صكوكو.
قد يقول قائل إن المجتمع الفاضل لا يوجد، هذا صحيح، ولكن مجتمعا تحصنه القيم الدينية والأخلاقية والقانونية السليمة وتفعّل فيه القوانين ويشعر أفراده بالمسؤولية وبالانتماء إلى شعب له تاريخ وحضارة ضاربة في جذور التاريخ، ويعتنق الإسلام الذي يحث على القيم الحضرية، يجب أن يكون لديه الوعي بهذه القيم وينبغي أن تنعكس تلك القيم على أخلاقه وسلوكه.