إن من يتأمل الإسلام كمتن وشاهد أمثل ويتلفت إلى الجماعات المسلمة الحالية ليرصد تمثلها لهذا المتن أو انزياحها عنه سوف يخرج بانطباع خطير مؤداه أن الرؤية السائدة تجاه الموروث الإسلامي لا تخلو من غبش وضبابية يؤثران على نفاذها إلى العمق واللباب من هذا الإسلام الذي خاطب أهل الأرض
منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا من الزمن...
منذ اللحظة الأولى كان هناك الرسول صلى الله وسلم بشخصه الكريم يشرح ويوضح ويملأ الفراغات...؛ الشيء الذي كرس – وقتها – نوعا من وحدة التصور من الصعب أن يوجد له مثيل لدى جماعة كالجماعة الإسلامية تأوي إلى نصوص ذات مداليل متنوعة بل متباينة – أحيانا – تباين الظروف والملابسات التي تتنزل فيها غير أن مما يخفف حدة هذا التباين ارتكازه إلى خلفية فكرية و(فلسفية) توجهه نحو مسار معين وبغية مقاصد مخصوصة
وإذا تجاوزنا العهد النبوي والراشدي وجدنا هذا التنوع النصوصي (التباين) ينحرف عن مساره؛ إذ يؤدي إلى تفاقم الخلاف حول المسائل الجوهرية التي ما كان ينبغي للخلاف أن يتطرق إليها مثل بعض صفات الله والقرآن الكريم والجنة والنار... (يمكن للقارئ أن يتحقق من ذلك في مباحث علم الكلام) وهنا لا يستطيع الإنسان – وهو يرى المسلمات الإسلامية بين الشد والجذب في أبحاث من يوصفون بالدراية والورع – أقول لا يستطيع الإنسان العادي – وهو يرى ذلك – إلا أن يأخذه الدوار وتستبد به الحيرة وربما أسلمه ذلك إلى التيه إلا من رحم ربك
ولا شك أنه في كل عصر وطور يهيئ الله لهذا الإسلام عقولا أفذاذا ينفضون عنه غبار العصور وترهات أهل الغباوة والجهل ولا أفرق هنا بين أولئك الذين يكتفون بالجلوس على الطاولة وإمساك القلم والورقة لإنتاج الخطاب العاقل، وألئك الذين ينزلون إلى الميدان ويتكلفون مخاطبة الجماهير والأخذ بيدها إلى طريق الهدى والرشاد...
وإذا كان بإمكاننا أن نقول إنه – على مر العصور – كان هناك المتن الذي تمثله النصوص القولية والعملية التي ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم والتي عبرت العصور ببطاقة هوية لا يتطرق إليها التزوير، ومن ثم حافظت – بشكل أكيد – على أصالتها وصحة نسبتها، فإن في وسعنا – أيضا – أن نقول إن هذا المتن رافقته حواش وهوامش أمينة سهرت على تجلية أبعاده ومراميه حتى ليمكن للمسلم الحريص على إسلامه المؤثر لاقتفاء نبيه.. أن يعض عليها بالنواجذ ويتمسك بها على نحو قريب من تمسكه بالمتن
ولعلنا يطول بنا الحديث حتى لنخشى أن نخرج عن المقام الذي نتحدث فيه إذا نحن تتبعنا النص الإسلامي\ المتن في سيرورته عبر التاريخ وتفاعلات النصوص المحايثة معه، ورغم إيماننا بأن ذلك هو المسؤول الأول عن بلورة الموقف الجماعي والفردي من الدين إلا أننا سنترك جانبا بعده التاريخي حتى لا يتشعب بنا الكلام ونحاول أن نقرأ قراءة سريعة في التفسيرات العملية لهذا المتن في عصرنا الحاضر
من كبريات الحركات الإسلامية التي عرفها عصرنا هذا حركة الإخوان المسلمين، وهي حركة ذات نهج شمولي تحاول أن تستوعب مرامي رسالة الإسلام الطويلة العريضة التي – كما يرى أحدهم – تبدأ من تنظيم حركة الإنسان في الحمام (أكرمكم الله) وتنتهي عند أقصى حدود العلاقات الدولية... ولا يهمني – هنا – استعراض فكر الإخوان المسلمين بقدر ما يهمني أن أقول إن هذا الفكر كان له بريق ولمعان ورواج في الأيام الخالية ولكنه الآن أصبح كالرجل المسن الذي ترهلت قواه ولم يعد يقوى على فعل شيء.. إن أصحاب هذا الفكر أظهروا من التصالح مع الواقع والتماهي معه ما جعلهم لا يفترقون بشيء عن من سواهم... إنهم بدوا أشبه بمن يستخدم شعارات دينية لتحقيق مآرب سياسية أرضية.. فهم يغضبون الإسلام إلا أنهم لا يرضون خصومه بالكامل...
وإلى جانب طرح الإخوان كان هناك الطرح السلفي الوهابي ومن أهم مساوئ هذا الطرح ميله إلى تكفير وتفسيق كل من يخالفه الرأي – ولو في بعض الجزئيات البسيطة – فالناس - في رأيه – ما بين قبوريين لا يختلفون عن عبدة الأثان كبير اختلاف، ومارقين على الحكام فهؤلاء – حسب هذا الطرح – يسيرون سير الخوارج وبالتالي فعقيدتهم منحرفة؛ مما يعني أن الخطاب المعارض لا مكان له بين السلفيين الوهابيين؛ إذ هو مروق وفتنة مهما كانت دوافعه وأسبابه ومسوغاته... إن الخطاب السلفي الوهابي – بهذا المعنى – هو أداة طيعة في يد الحكام يدافعون به عن سياساتهم الرعناء، ويسبغون على أنفسهم من خلاله شرعية مفقودة...
وإذا كان التيار الإخواني يبحث عن البديل من منظور تصالحي، والتيار السلفي يحافظ على القائم ويرى في خلخلته مروقا وفتنة، فإن هناك تيارا ثالثا يرى أنه لا مندوحة من فرض "الخيار الإسلامي" بالقوة أو بالحديد والنار – كما يقال – ومن ثم يرفع هذا التيار شعار الجهاد، وهو أسلوب يرى البعض أنه ساهم في تشويه صورة الإسلام وسمعته عند الآخر كما عند الأنا ممن يتأثرون بالآخر، غير أننا إذا نظرنا بعين الإنصاف والموضوعية لهذا التوجه وجدنا أنه لا يخلو من وجاهة خاصة إذا عدنا إلى النص\ المتن وتجسداته عبر التاريخ، ولاحظنا كيف انعكست هذه التجسدات بالإيجاب على الأمة الإسلامية في حياتها الخاصة وفي مكانتها بين الأمم... ثم كيف أصبحت النتيجة بعدما غابت هذه التجسدات عن حياتنا وعن تجاربنا وعن ممارساتنا السياسية؟
ولا أظن أنني – هنا – بحاجة إلى التذكير بالواقع المزري الذي يعيشه العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه؛ لأسباب مختلفة من أهمها التدجين وموت البأس وغياب الجهاد الموجه للداخل والخارج... الجهاد الذي لا يعني أبدا استعمال القوة والبطش بشكل جنوني هستيري مثلما ينقله الإعلام من تصرفات طائشة يدعي أصحابها أنها جهاد ولكن هيهات... فالجهاد ليس إرهابا ولا تخريبا إنما هو تأمين وتعمير وبناء؛ تأمين للأوطان، وتعمير للأرض، وبناء للحضارة...
وأخيرا عزيزي القارئ أعترف لك بأن الموضوع كبير جدا وأن ما قمت به في هذه السطور مجرد إثارة في منتهى التطفيف... ولكن لتسمح لي بأن أهمس في إحدى أذنيك بأن هذا القرن بحاجة إلى خطاب إسلامي جديد...، وفي الأخرى بقول الشاعر:
ألا كل شعب ضائع حقه سدى == إذا لم يؤيد قوله المدفع الضخم!