أثناء متابعتي الحوار الذي أجرته قناة روسيا اليوم مع وزير الخارجية الدكتور إسلكو ولد أحمد إيزيد بيه تكشفت لي معالم شخصية استثنائية متميزة بكل المعايير، فالوزير برهن على معارفه الغزيرة و خبرته المتراكمة التي غذت فكره و أكست تفكيره ذكاء قل نظيره، امتاز حديثه بالدقة و الفصاحة،
العمق و خفة المصطلح، وحملت كلماته شحنات من الواقعية و الدبلوماسية، المسؤولية و الانتماء المتأصل للأرض و الثقافة.
بدأت المقابلة بالتحديات التي تواجهها موريتانيا، ليتناول معالي الوزير الدكتور الموضوع بشمولية و منهجية، رافضا أن تكون موريتانيا وحدها في تلك الجبهات، قائلا إن دولا صناعية كبرى تشاركها القلق ذاته، مصنفا البعد الأمني في طليعة تلك التحديات، مذكرا بالموقع الجغرافي و ما يجري في شبه المنطقة من توترات و حتى مواجهات، متحدثا بلغة الأرقام، متعففا عن الغوص عميقا في مآسي دول الجوار، ما يدلل على دبلوماسية متأصلة و موهبة أكستها التجربة حلة القبول و وشحتها ببريق الجذب. لقد أظهر الوزير قدرة عالية على التعاطي مع الإعلام و ابتعد عن التكرار الممل دون أن يقع في اختصار مخل. الدكتور نبه إلى ما تعرضت له موريتانيا من استهداف سابقا، وأرجع التمكن من كبح نفاذ الإرهاب إلى : التوكل على الله عز و جل أولا، ثم المقاربة الناجعة التي وضعها رئيس الجمهورية المعتمدة على الموارد الذاتية و ضمان تأمين الحوزة الترابية، تلك المقاربة التي تطلبت الولوج إلى معاقل الإرهابيين في الأراضي المالية، الوزير ذكر بالمعرفة الجيدة للدولة الموريتانية بالمنطقة، الأمر الذي أتاح لها إمكانية تسديد لكمات وقائية للعدو.
الدكتور لم يهدر فرصة الحديث عن ما حققته بلادنا في سبيل الديمقراطية و حرية التعبير، و استشهد بتقارير هيئات مستقلة لا تأثير للسلطة في موريتانية عليها، تقارير صنفتها الأولى عربيا في أكثر من مرة، صاحب المعالي لم يقتصر في حديث التحديات على البعد الأمني بل واصل نحو إشكاليات أخرى كالحريات الفردية و الجماعية وظاهرة الهجرة التي قلما تجتذب المواطن الموريتاني لما ينعم به من فضاء لحرية التعبير ولجم قوى الكبت و التكميم والكلام لرئيس الدبلوماسية الموريتانية، رغم ذلك تظل موريتانيا في الخط الأمامي لقوافل المهاجرين الأجانب الذين توارثوا ثقافة الهجرة و تعتبر في بلدانهم تقليدا قديما، لكن النجاح يتجسد في الشراكة مع الأسبان و التي أفرزت الرقم صفر مهاجر خلال السنة الماضية و بصرف النظر عن الجنسيات، والشريك الأوروبي يقر لموريتانيا بالنجاح على تلك الأصعدة الثلاثة الأمني الهجرة و الحريات.
الدكتور استهجن وصف الأشقاء العرب بالبخلاء اتجاه بلادنا، و أطلق عليهم الأوصاف الصحيحة اللائقة بهم "نحن نقول إن العرب... " لأنهم إخوة أعزاء نتقاسم و إياهم كل شيء : الثقافة و التاريخ، الحضارة و العاطفة، الاهتمام و ... مؤكدا على تماسك اللحمة بين الإخوة و موريتانيا التي يكفيها شرف استضافة القادة العرب في قمة نواكشوط، كما لم يفوت صاحب الشؤون الخارجية و التعاون الموريتاني فرصة التذكير بالاستثمارات العربية المعتبرة و المتواصلة قصد التنمية، ملفتا النظر إلى اعتماد الدولة مؤخرا على مواردها الذاتية كنتيجة طبيعية لسياسة فخامة رئيس الجمهورية المقلمة لأظافر المفسدين، و هو نجاح على الصعيد الاقتصادي لا يقل أهمية عن النجاحات المذكورة آنفا.
و في جوابه عن السؤال المتعلق بمؤهلات الاستقطاب السياحي، استعرض الوزير ما تزخر به موريتانيا من مواقع و محميات كفيلة بجذب السياح.
و كان رده على سؤال القناة عن عجز الجامعة العربية موفقا لأبعد الحدود و يستقيم جبريا، معللا بالهزات التي يمكن أن تتعرض و تعرضت لها جميع المنظومات، ضاربا مثالا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الوزير أبرز عوامل القوة لدى العرب و التي من أهمها التجانس الثقافي الذي تفتقر إليه مكونات الهيئات المشابهة، ليخلص إلى تعدد الإمكانيات الباعثة على الاطمئنان، كالتراكمات الحضارية الإسلامية العربية و بسطة الموارد، مستشهدا بالدراسات التي تنتهي إلى سرعة انتشار اللغة العربية مقارنة باللغات الأخرى، الأمر الذي يعتبر لاشك دليل تقدم. مؤكدا بذل موريتانيا و الأشقاء كل الجهود لترميم البيت العربي.
الدكتور أصر على أن يجيب بصفته وزيرا للخارجية حينما طلب منه المحاور لعب دور المحلل السياسي في السؤال المتعلق بسورية، و بمنهجية الأكاديمي المشتغل بالبحث قسم السؤال إلى شقين : الأول تتحمل فيه موريتانيا المسؤولية كاملة حين أبقت على سفارتها في دمشق و لم تقلص تمثيلها الدبلوماسي ليظل مكتملا بتواجد شخص السفير على تراب هذا البلد الشقيق، فالوزير يرى في ذلك حقا علينا واجبا للشعب السوري بغض النظر عن من يحكمه. أما الشق الثاني فإن المنظومة العربية و إن تعددت الآراء تحت خيمتها هي من يتحمل مسؤولية القرار فيه. مهندس الدبلوماسية لم يقبل طرح مقدم البرنامج القائل بسيادة قرارات من يدفع أكثر في الجامعة العربية، و ليقرب الفكرة أسقط الصورة التي ارتسمت في القمة الإفريقية مؤخرا على ما يجري من مطارحات سياسية تحت الخيمة العربية. معالي الوزير فتح من خلال حديثه الباب أمام الأكاديميين و أصحاب القرار للوصول إلى مقاربة توفق بين سيادة الدول و قرارات الهيئات المنضوية تحت لوائها. الرياضي الباحث رفض التكهن فيما يتعلق بالقمة القادمة، مكتفيا بالقول إن موريتانيا أبقت على مقعد سورية في قمة نواكشوط.
معالي الوزير استوقف المحاور عند قوله "أنتم في موريتانيا لم تصلكم ريح الربيع العربي" مصححا "وصلتنا لكن الطريقة التي تعامل بها فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد عبد العزيز و الحكومة و الأغلبية تميزت بالحكمة ربما لأننا من سكان الصحراء و نعرف كيف نتعامل مع العواصف" شارحا "نحن بلد ديمقراطي حر تركنا لمعارضتنا حرية التظاهر" الدكتور أرجع الثبات في مواجهة العاصفة إلى تقبل الرئيس و الحكومة للنقد، فصاحب الفخامة أمر كبار معاونيه و أعضاء الحكومة بالتحمل و إلا فليتركوا مزاولة الشأن العام التي لا يصلح لها إلا من كان الصبر سجيته، حينها بدأت دعوات المعارضة تخمد تدريجيا نتيجة لما أسلف و عدم شرعية مطالب إسقاط نظام نصبته صناديق اقتراع شفافة، ناهيك عن الإفلاس السياسي لقادة التظاهر الذين اعترف أغلبهم بأن الربيع المجازي مجرد مهزلة و ما حف به البلاد العربية من مخاطر كان كافيا لقولهم إن رد فعل رئيس الجمهورية بخصوصه هو الأنسب.
أما فيما يتعلق "بالظاهرة الترامبية" و المحرر من يستعير المصطلح لم يستبق الدكتور الأحداث لأن الرئيس الأمريكي يخطو الآن بداية مساره و كل ما يتداول الآن هو مثار جدل واسع في الولايات المتحدة و العالم بأسره، داعيا إلى التريث و القراءة المتأنية لما سيتقرر بخصوص كل تلك الإشكالات، و في النهاية ما سيصدر من قرارات يبقى في حدود السيادة لدولة انتخب رئيسها بصفة ديمقراطية، لكن و مهما يكن فإن الدول الكبرى كالولايات المتحدة و روسيا تكمن مصالحها كما يتصور معالي الوزير في الانفتاح و التبادل الثقافي و التجاري مع الآخر "فمن يغلق عليه غرفة مظلمة لن يربح كثيرا" الأمر الذي يناقض الثقافة الأمريكية التي تشكلت نتيجة لقوافل الوافدين و الحلم الأمريكي المستلهم من وحي استقطاب المبادرين و خلق الحركية، بالتالي فإن السلطة و الشعب في الولايات المتحدة سيتوصلان لمقاربة أكثر احتراما للثقافات الكبرى و بخاصة الإسلامية العربية.