ـ1ـ
كنّا رأينا في سياقات أخرى أنّ التّكفيريّ ليسَ، بداهةً، مهتمًّا بالنّجاة الممكنة وإنما بالنجاة المستَحيلة. إنّه صاحبُ الحجزِ الأخير والتذكرةِ الأخيرة. ما يقولُه من حيثُ هو تكفيريّ هو أنّه ليس فقط ناجياً وإنّما أنّه هو وجماعتُه هم النّاجون الحصريّون. يمارسون رَأْسَمَلَةُ النّجاة،
أي تحويلَها إلى ملكيّة خاصّة. ولكنّه حين يخوصص النجاة فإنه لنفس السبب يعمّم الإلغاء، يجع القتل مشاعاً جماعياً. وحين يقوم بالعمليّة الانتحاريّة فإنّه يـُجسّد هذه العلاقة الإلغائيّة مع الآخرين في صورتها القصوى. لأنّه من ناحية يلغيهم همْ من حيثُ هُمْ عيّنة عشوائيّة لأيّ آخر (تفجيرات الشّوارع والساحات العامّة التّي يمكن أنْ تضمّ جميع أصناف النّاس، إلخ تمثّل راهنياً النموذج الأَوْجِيَّ لهذه العشوائيّة كاستهداف للإنسان أياً يكن، للإنسان من حيثُ هو إنسان). ولأنّه، من ناحية أخرى، يُلغي أيّ علاقةٍ ممكنةٍ بهمْ حتّى بعدَ قتْلهم، عبرَ محاولة إلغاء وجودِهم ووجودِه الأرضيِّ. فحين يعتقد أنّه يلغي الآخرين، مادّياً ومعنوياً، فإنّه يعتقدُ بنفس المعنى أنّه يمنحُ نفسَه القدرة التّسويقيّة القصوى، ليصبحَ حصرياً النّظامَ والنّسقَ وقواعدَ الضّبط إلخ. ثمّ لأنّه، من ناحية ثالثة، يَهدفُ إلى إلغاء الإنسان أو المرْء (المروءة/الإنسانية). فهو، حين ينسِفُ نفسَه وغيرَه، يحوّل الإنسانيةَ إلى أداةٍ إنتاجيةٍ وتسويقيةٍ تُـمكّن من استمرارِ وتوسّعِ العنفِ كسلعةٍ متماهيةِ مع استعراضِها المشهديّ في السوق الكوني، كوسيلة وكغاية، كتمثيلٍ وكمُمَثَّلٍ له.
ـ2ـ
التّرهيب التكفيري ليس فقط موجّها إلى الخارج، أي إلى من هم خارج مجموعةِ تكفيريةِ ما، بل إنّه مبدأُ وجودِ المجموعة التّكفيريّة. إنّه وسيلةُ وغايةُ انتماءِ أفرادِها إليها. وهذا بالذّات ما أوضحتْه الدّراسات الّتي حاولتْ أنْ تكشف الطّريقة الآليّة الّتي ينفِّذ بها الانتحاريّ عمليّةَ قتلٍ جماعيّ ما.
نفهم إذ ذلك أنّ التّكفيرَ حين يربط نفسه بصياغات لاهوتية ما فإنّ ما يعنيه فيها عملياً ليس توهّم صحَّة هذه الصياغات، ولكنْ إمكانيةَ تحويلِها إلى وسائط هوياتية واستقطابية، ومن ثَمَّ تسويقية، إشهارية. لا يهمّه أن تكون الصّياغات الكلّيّة كاذبة، أوْ حتى “صادقة”، فذلك مجالٌ خارجٌ عنْ حقْله. المهمّ أنّها تُسوّقُ للسلعة التكفيرية بنجاعة صارخة، صادمة، مفرطة. وهي من حيثُ نجاعتُها في تسويق هذه السّلعة تكتسبُ مصداقيّتها السّوقيّة، مصداقيّتها الرّأسماليّة تلقائياً. التّكفيرُ بمعناه الرّاهن مشروعٌ رأسماليّ مربح. فقدرتُه على تحويلِ الحشودِ إلى وقودٍ للسّوق، إنتاجاً واستهلاكاً، تتضاعف. فما سمّاه كارل بُولانِي بالتّحوّل الكبير (حوْلَ ما اعتبرَه، خطاً أو صواباً، انتقالاً عرفتْه البشريّة منذ بداية الثّلث الثّاني من القرن 19، لم يعد بموجبه السوق مندمجاً داخلَ المجتمع وإنّما أصبحَ المجتمعُ هو الّذي يندمج في السّوق وداخل السّوق إلخ) اكتسبَ الآن دلالةً جديدة. فيمكننا أن نقول راهنياً أشياءَ شبية عن التّحوّل التّقني الإعلاميّ الكبير الّذي أصبحتْ عبْره سوق التّواصل هي الفضاء الكلّي الذي تتحرك داخله وتندمج عبره وفيه المجتمعات كما الأفراد. العنف التّكفيري في صيغته الراهنة هو إذاً تحولٌ كبير داخل التحولِ التواصلي الكبير. فالعنف التكفيري هو مرحلةٌ من التسليع والتسويق التواصلي المفرط يتطابق فيها التواصل ونقيضه، أو العجز عنْه، كما تتطابق فيها السلعة وتسويق السلعة، أداة الإعلان والمعلَن عنه إلخ.
ـ3ـ
تاريخيّا حاولتْ السّياسة بمعناها العامّ، أي كآلية للتّعايش بين أفراد المجتمع، أيِّ مجتمع، أن تبرّر نفسها كممارسة بديلة عن العنف المباشر، أي عن العنف الجسديّ الّذي طبع تاريخيّا جزءاً واسعاً من علاقات البشر، خصوصاً بالنسبة لمنْ ضمّهم فضاء مشترك ما، حيٌّ أو مدينةٌ ما. طبعاً لا يمكن للسّياسة، أيّا تكن، في أيّ مكان وأيّ زمان، أن تزعم أنّها ليستْ هي الأخرى شكلاً من أشكال العنف الّذي يحكم علاقات البشر. إنّ مبرّرها غالبا هو أنّها من جهةٍ تحاول أن تنزع عن جزء من علاقات العنف طابعها الجسديّ الهمجي المباشر، الخامّ. ومن جهة أخرى أن تضبط وتقعّد إمكانيّات استخدام العنف. ولكنْ وفْقَ أيّ معيار ووفق أيّ قاعدة وبأيّ مشروعيّة؟ تلك ظلّتْ الإشكاليّة الّتي لم تزدْها الدّول الحديثة (بالمعنى الْفَبري، أي بمعنى منْحها لذاتها مشروعيّةَ تمتّعها باحتكارِ استعمالٍ العنف) إلاّ ازدياداً في الحدّة. هذه الإشكالية هي بداهة ًما تعبّر عنه تقليدياً عبارة اكْلاَوْزُوفِيتشْ: “الحرب ليست إلاّ مواصلة للسّياسة بطرق أخرى”. أو الصياغة المقابلة عند فُوكُو: “السّياسة ليست إلاّ مواصلة للحرب بطرق أخرى”.
ـ4ـ
بهذا المعنى يمكن أن يقال عن العنف التّكفيريّ إنّه مواصلة للسّياسة والحرب بطرق أخرى تنسجم مع المرحلة الرأسملية والعولمية الراهنة، مع مرحلة تسليع العنف العشوائي، تسليع الهمجية. إنّهُ نوعٌ خاصّ لا يحتاج أن يواصل سياسةً ما أو أن تواصلَه سّياسة من أيّ نوع إلا كسياسية وكحرب مرادفتين له.
فكما أنّه يقدّم نفسَه كمبرّر ذاتي لوجوده فإنّه أيضاً يمثّل غايته الذّاتيّة. العنف التّكفيريّ كُلِيَّانِيّ في توحيده بين إيديولوجياه وممارسته. ليستْ لديه أيةّ إديولوجيا أخرى فيما يتجاوز الممارسة الأداتية الّتي يقدّم. وليست هذه الممارسة غير استعراض الممارسة، المشهد الاستعراضيّ. وهذا المشهد الاستعراضيّ، استعراضي بطبيعته، بدءاَ باستعراض االمنضمين ولمُنْضَمَّات الجدد، وانتهاءً عمليات مسْرحة المجازر الموغلة في الدموية.
يتواصل
* مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل