ليس طبيعيا أن يعيش أي مجتمع في إطار ثقافي مشوه يعلم خبر فساده الجميع دون أن تكون هناك مبادرات أو مساعي للإصلاح فيه ولو داخل البنية المتشكل فيها ، ذلك أن الإدراك الثقافي هو الوحيد الذي يضمن سلامة المجتمع واستمرار أنساقه المختلفة في أداء وظائفها على أدق الأوجه ،
حسب التعبير الوظيفي السوسيولوجي ، فلا يمكن أن يتقدم المجتمع دون الرجوع إلى البنية الثقافية ومعرفة مجمل العراقيل والمساوئ التي تختفي داخل النسق الثقافي ومحاولة تنقيحها وتصحيحها من اجل بعثها في ثوب جديد يتلاءم ومخططات التنمية الثقافية وأهدافها.
إننا نتحدث عن الجانب المعنوي للثقافة الموريتانية قبل أي شيء آخر ، وعندما نقول الجانب المعنوي فهذا يعني أن للثقافة جانب آخر وهو الجانب المادي ، وقد فرق علماء الآنتروبولوجيا بين الاثنين وصنفا في كليهما ما يمكن أن يصنف ، فإذا أخذنا بالتصنيفات الآنتروبولوجية التي نميل إليها أكثر فإن الثقافة بغض النظر عن مشتقاتها الدلالية واللغوية وعن تاريخ مفهومها في تشكله العربي أو الغربي تعني أنها المقاربة أو العلم الذي يدرس الإنسان من حيث كونه عضوا في مجتمع لـه ثقافة معيّنة تلك الثقافة التي تتجسد في إطار عام مقنن أو محدد عرفيا (العادات والتقاليد والقوانين ..) ، هذا فيما يخص الجانب المعنوي ، أما الجانب المادي فلا يعني أكثر من الحضارة الإنسانية وآثارها ، أي أنها تعني الآلات والبناءات وجميع الأشكال والأدوات التي ينتجها الإنسان لخدمة نفسه ، وذلك على حسب تعريف ادوارد تايلور لها باعتبارها ذلك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع .
انطلاقا من ذلك يجب أن نقسم المجتمع إلى فرعين بالنظر إلى المجتمع من الناحية الثقافية أو بالنظر إلى ثقافته المتمثلة في العادات والأعراف والتقاليد ، وإلى الجانب المادي المتمثل في الأشياء الخارجية التي ينتجها الإنسان .
لقد قرأتُ منذ سنوات بحث كان عنوانه "صراع القيم" في موريتانيا لمؤلفه أحمد ولد محمد محمود ، ورغم افتقاد ذلك الكتاب إلى المنهج العلمي فإنه إضافة معرفية يمكن الاستئناس بها ، اعتبر الباحث أو صور أن شريحة "الصناع" الحرفية أنها مبدعة استطاعت أن تخرج من بيئتها الجغرافية والاجتماعية الموغلة في البداوة وأن تصنع أدوات ترفية لا تتواءم وطبيعة المجتمع الذي أُنتجت فيه ، هذا من الناحية المادية لمجتمع كانت تغلب على حياته البداوة والترحال ويفتقد الكثير من مقومات الحياة الحضرية استطاع أن يكسرها ويعوضها ولو شكليا بصنع أدوات يستخدمها لأغراض يومية (الهودج ، السرج ، الراحلة ...)
أما فيما يتعلق بالجانب الثقافي فإن مساءلة ذلك الجانب أمر قد يطول ولا تكفي اسطر قلة لمناقشته والأجدر بنا التركيز على جانب معين منه ، من أجل مناقشته وبلورة رؤية معينة اتجاهه .
ولا يوجد ما هو أهم من القيم المتمثلة في العادات والأعراف المسيرة لعقليات تصنع الإنسان ثقافيا وتشكله في بيئته الأولى (البيئة الزوجية) وما تحتوي عليه تلك البيئة من أدوار مختلفة مخصصة ومعدة لكل من الرجل والمرأة مسبقا من طرف العرف الاجتماعي.
لقد وُصف قديما المجتمع الصحراوي بالمجتمع الأمومي نتيجة لدور المرأة فيه ولتأثيرها في المجتمع الصنهاجي القديم ومن امثلة ذلك تداول السلطة حسب القرابة الأمومية وما كانت تحظى به النسوة في القيادة ، حيث أنهم صاحبات الرأي والرجال أصحاب التنفيذ والتطبيق ، فعظمة القائد لا تكتمل إن لم يؤخذ برأي سيدة ما من خواصه .
وبعد دخول بني حسان وإعادة الأسلمة الجديدة حسب تعبير "بيير بونت" وما نتج عن دخول تلك القبائل من تغيرات ومن إعادة للتشكل الثقافي أثر على دور المرأة في المجتمع ، خفت مرونة ذلك العرف وأصبحت المرأة صاحبة القرار الوحيد في البيت بينما الأمور الخارجة عن البيت من شغل الرجل ، فتغزل هي الوبر وتعد الخيمة وترعى وقوفها وثباتها والأولاد وتربيتهم ، ويهتم هو بصنع المكانة الاجتماعية وتحصيل لقمة العيش وما إلى ذلك من المهام الذكورية في المجتمع الموريتاني ...
وعلى ذلك تسير العلاقة الخارجية حسب ما هو مفهوم وواضح في إطار عام يحدد أدوار ووظائف كل من الرجل والمرأة في البيت ، لكن عند الدخول إلى العلاقة الداخلية التي تربط الزوجين من الداخل فهناك مسائل مبهمة أثرت بشكل أو بآخر على المجتمع حسب التطور التاريخي ، عندما أصبحت المعاملة الزوجية تتطلب نمطا مخالفا ، وصارت العلاقة نفسها المحددة للأدوار متغيرة عن وعي أو بدونه ..
إن النظر إلى انتشار الطلاق وفشل البيت الموريتاني في تأديته لأدواره تربويا بالإضافة إلى الفهم المفرط لحقوق المرأة وما ترتب على ذلك من مشاكل اجتماعية جمة عانى من المجتمع وغير في نمط قيمه سلبا ، لأمر يستدعي الدراسة والتحليل اجتماعيا من أجل التوصل إلى مكامن الخلل وإشعار الجميع به من أجل تداركه .
ولا أظن ذلك متاحا نظرا لمعطيات منها قلة الوسائل المتاحة لذلك ، وعدم فهم المجتمع لحقيقة مثل هذه الأمور .
فلو أغفلنا في هذه الأسطر ، الطلاق ومخلفاته الشائعة وما يؤدي إليه من تدهور نفسي واجتماعي ، فما الذي يفسر استمرار المرأة في رفض تعدد الزوجات ؟، ومن الذي يفسر في ذات الوقت تقبلها لشائعة تفيد بأن زوجها يبحث عن غيرها في الحرام ، ورفضها المطلق لزواجه سرا عليها ؟ ، فإذا نظرنا إلى حجة المرأة فإن الأولى تجري دون علم المجتمع وهذا شيء مقبول ، أما الثانية فهي وعلى الرغم من شرعيتها الشرعية فهي شائعة ومعروفة الجميع وتعتبر عندها إهانة وقبولها خنوع وضعف ..!
وبغض النظر عن المسائل التي يجوز فيها التعدد وصلاحه حسب الظروف الإنسانية والاجتماعية المختلفة ، فإن هذه عوامل متواجدة بقوة في المجتمع الموريتاني ، وتأثيرها جد كبير وواسع .
فهل هي نابعة من القيم المتوارثة اجتماعيا تلك التي كانت تضبط علاقة كل من الرجل والمرأة داخل المجتمع الموريتاني عبر مختلف العصور ورغم كل التطورات التاريخية ؟ أم أنها نتاج الواقع والتطورات المختلفة من خلال تعدد الروافد وتشعبها ؟.
طبعا الإجابة على تلك الإشكالية تتطلب بحوثا معمقة في الموضوع وهو ما نفتقده الآن ، وليس هذا وحده ذلك ان الفهم الاجتماعي للمعاملة الزوجية وما يتخلله من مسلكيات تؤثر سلبا في نجاح العلاقة بين الزوجين لأمر تجدر المعاملة به على نفس النحو السابق.