كشف اجتماع باريس 20 فبراير 2009 عن مشهد سياسي يختلف عما كان سائداً قبل هذا التاريخ منذ انقلاب 6 أغسطس 2008، فقد اعترف المجتمع الدولي بوجود ثلاثة أطراف رئيسية للأزمة الموريتانية، وذلك بعد ما ظل الصراع في الماضي مختزلا في طرفين هما العسكر المنقلبون على شرعية «المؤسسة
الرئاسية» والأغلبية الحزبية والنيابية التي تدعمهم، والجبهة المناوئة والرئيس المنتخب الذي التفت حوله الجبهة الداعمة له باعتباره يختزل «جسدا وروحا» قيم الشرعية الدستورية التي أفرزتها رئاسيات 2007 المتأرجحة بين «تزكية نزاهتها تقنياً» وطعون موجهة لدور العسكر السياسي والمالي في نجاح من كان في اعتبارهم «الرئيس المؤتمن». كسر حدة المشهد السياسي وقد تكشَّفَ المساء الباريسي 20 فبراير 2009 عن خارطة جديدة للوضع السياسي الموريتاني بأطرافه الداخلية والإقليمية، والمتغير الأهم هو اعتراف المجتمع الدولي بـ «حامل لقب» زعيم المعارضة كطرف ثالث في الأزمة، وهو الذي واجه صعوبة كبيرة في إقناع العسكر والجبهة المناوئة بهذه المكانة في صراع الأزمة الحالية منذ عدة أشهر، وهي ورقة ستقوي من رصيده الداخلي وقد تسهم في انتعاش شعبيته أو تثبيت التململ الذي يهدد وحدة حزب كان يوماً أكبر أحزاب المعارضة وأهمها على الإطلاق. أما انعكاسها في المشهد السياسي فهو ذو دلالات مهمة مستقبلية، فقد كسر إدخال هذا المتغير الحدة الشديدة في صراع الأطراف السياسية الموريتانية، وهو تحول يفتح المجال لإدخال متغيرات جديدة أخرى على أطراف الصراع، وهو ما سيسهل التوصل لحل يكون رضا الأطراف المتعددة به عامل ضغط على أكثر الأطراف تطرفاً من ناحية، وربما يقوي تعدد الرؤى فرص التوصل لحلول أكثر وسطية وأبعد عن الشد والجذب بين طرفين لا واسطة لهما. أما الطرف المهم الحاضر الغائب إبان تشكل المشهد فهو العقيد علي ولد محمد فال والمبادرات والشخصيات الداعمة له، وإن تزامن هذا التحول مع بروز مبادرة جديدة في الساحة تحمل اسم «مبادرة الأطر» وضمت أكثر من 50 شخصية سياسية مؤثرة وتتحدث الكواليس عن وقوف رجل المرحلة الانتقالية القوي وراءها وهو المعروف بـ «انضباطه وخطواته المحسوبة سياسياً» وهو لايزال يلاقي قبولا لدى المجتمع الدولي، ويقول العارفون به إنه سيعمل على استثمار لحظة تنازله والبريق الذي خلفه هذا الفعل الاستثنائي باعتبار الأزمة الحالية فرصة ذهبية لا تعوض لعودته للسلطة بفعل تضافر عوامل سياسية و»عرقية قبلية» عديدة، وهو وإن كانت شعبيته في الداخل ضعيفة، إلا أن ظروف الأزمة الحالية قد تدفع للقبول به بديلاً عن الجنرال الحالي الذي سيكون ترشحه وفوزه في أي استحقاقات قادمة آخر حفنة من الرمال تهال على جثمان الديمقراطية المسجاة في إهاب نجاح الانقلاب والانتخابات فاقدة المصداقية. وربما تحمل تطورات الأزمة وحوارتها الدولية إدخال المتغير الرابع ممثلاً في مبادرة الأطر المقربة من ولد محمد فال للمبادرة التي أعاقتها رتابة عقليات كل من «مثقفي السلطة» بل وعقلية الرجل الأمني، الذي يعتقد أنه يسيرها من الخلف، وقد يصل المجتمع الدولي لحل أغلبي نسبي لا يرضي جميع الأطراف ويمضي في تطبيقه رغم معارضة الأقلية له، ذلك ما يوحي به ولو جزئياً الحراك السياسي الحالي للأطراف الدولية. متغيرات في سقوف الأزمة ويبقى أهم تحول سياسي عرفه اجتماع باريس هو الليونة التي عرفتها مواقف الأطراف الرئيسية للأزمة، فقد أعلن العسكريون عن قبولهم بأي حل سياسي دستوري بشرط ألا يقود لعودة الرئيس المنتخب سيدي ولد الشيخ عبدالله، وحدد الحاكم العسكري أجلاً لاستقالته وقبوله بتولي رئيس مجلس الشيوخ -المنحدر من الشريحة الزنجية- الرئاسة والإشراف على الانتخابات النزيهة والشفافة التي حددتها وثيقة صادق عليها البرلمان، غير أن عوائق التأويل القانوني المقنع تقف حائلاً دون هذا السيناريو ما لم يتنازل الرئيس المخلوع عن السلطة أو توجد مسوغات مقنعة لتأويل الدستور في الوضع الحالي بشغور المنصب الرئاسي، وفي هذا السياق يلوح في الأفق مسوغ شغور المنصب نتيجة القوة القاهرة وما يحف هذا التفسير من قرائن ترجح العمل على تفادي مخاطر الصراع على السلطة وما يقود إليه من منزلقات كمدخل قانوني لأن تكون الانتخابات القادمة منسجمة مع مقتضيات الدستور. وجاءت مبادرة أحمد ولد داداه التي اشترطت أيضاً عدم ترشح العسكريين أو دعمهم لمرشح سياسي على غرار ما حدث 2007 لتشكل سنداً من ناحية لموقف العسكر في الشق المتعلق برفض عودة ما قبل 6 أغسطس 2008، لكنها من ناحية أخرى جاءت لتعضد موقف الرافضين لبقاء العسكر في السلطة، ومن هنا اكتسبت مبادرة الرجل قيمتها الوسطية بصورة أكثر إقناعاً ودفعت في مقصدها السياسي لرغبة الأطراف الدولية. أما الرئيس المخلوع ولد الشيخ عبدالله فقد قدم تنازلا جوهريا مهما يتمثل في استعداده للقبول بالعودة للإشراف على انتخابات سابقة لأوانها في أسرع وقت، وهو تنازل مهم إذا ما لاحظنا محدودية الأوراق التي يملكها الرجل الذي يجسد الشرعية الرئاسية ولكنه أعزل من أي سلاح أو أوراق قوة تسمح له بوضع مناسب للمناورة السياسية الفاعلة. وبالجملة، فقد حصل تقدم كبير يتمثل في قبول جميع الأطراف بانتخابات نزيهة وشفافة ومراقبة من جهات مستقلة تكون سابقة لأوانها، ويتفق الجميع عليها كآلية لتصفية الصراع بصورة مقنعة وإجماعية، وسيحتل الدور الدولي أهمية كبيرة في إيجاد حل أكثر إقناعاً، خصوصاً في ظل التلويح الدولي بالعقوبات الدولية الفردية، بل وحتى الاقتصادية في ضوء اتفاقية «كتونو» وهو ما سيجعل الجميع متقبلاً للحلول المطروحة وما تتطلبه من تنازلات. مواقف الأطراف الدولية من الصعوبة بمكان استقراء المواقف الاستراتجية للمنظمات الدولية التي اهتمت بالملف الموريتاني، غير أن من الضروري الإشارة إلى بعض الملاحظات الضرورية لفهم اتجاهات الحدث السياسي، ويمكن أن نقسم المنظمات الست إلى طرفين وواسطة، أما القسم الأول منها فهو الذي يتفهم الانقلاب ويطالب بانتخابات شكلية لتجاوز الوضع الراهن، وهذا موقف الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي والعديد من المنظمات الشبيهة. أما القسم الثاني الأكثر تشددا فيمثله الاتحاد الإفريقي ومنظمة الفرانكفونية اللذين بدءا عقوبات فردية نافذة ضد أعضاء المجلس العسكري الحاكم وحكومته، غير أن العقوبات الإفريقية ملزمة فقط لدول الاتحاد وكثيراً ما تعرضت قرارات الاتحاد للخرق، نظراً لصراع المحاور المتعدد الأقطاب في القارة. أما واسطة العقد في مواقف المنظمات الدولية فهو موقف الاتحاد الأوروبي الذي يؤثر على موريتانيا بصورة مباشرة، أيا كان نوع العقوبات فردية أو اقتصادية، غير أن الموقف الأوروبي يبدو أكثر تأنيا وتفهما لخطورة العقوبات على موريتانيا، ربما أكثر من أطراف الأزمة الموريتانية ذاتها، غير أن العديدين يرجحون أن الموقف الأوروبي محكوم أيضا بتأثير العقوبات على مجالات الشراكة مع موريتانيا في جوانبها الأمنية فيما يتعلق بالمخدرات والهجرة السرية والإرهاب من ناحية، وكذا فرص الصيد والنفط والحديد التي هي محط أنظار مخططي السياسة الاقتصادية الأوروبية، خصوصا فرنسا وإسبانيا اللتين سيكون تأثير العقوبات عليهما سلبياً للغاية، وذلك نظراً للفرص التي ستخسرانها. وبالجملة فالمشهد السياسي الموريتاني مقبل على مزيد من التحولات وإعادة القوى السياسية انتشارها بناءً على تحولات مشهد الأزمة الآخذ في التشكل الآن في آفاق التقاء الإرادات الداخلية والخارجية بحثا عن حل يرأب الصدع ويوحد الأشقاء.