1. في تعاطي النخبة مع الشأن الوطني العام
بادئ ذي بدء نرى من الضروري ونحن نعالج تعاطي النخبة مع الشأن العام في بلادنا، أن نضع تعريفا ميسرا لمفهوم النخبة، ثم نتناول بعد ذلك نماذج من تعاطيها مع الشأن الوطني العام.
لقد أجمع معظم علماء الاجتماع،
انطلاقا من قاعدة التطور غير المتكافئ وتفاضل البشر في الرزق، على أن المجتمعات تنقسم إلى فئتين: فئة عليا سائدة هي النخبة؛ وفئة سفلى مسودة درجوا على تسميتها الدهماء أو العامة. وتنقسم النخبة بدورها إلى فريقين: نخبة حاكمة (تضم الحكومة والبرلمان والإدارة العليا والقادة العسكريين، وفي بعض الحالات الأسر ذات النفوذ السياسي، وقادة المؤسسات الاقتصادية القوية) ونخبة غير حاكمة (تضم قادة الأحزاب السياسية التي ليست في الحكم وممثلي مصالح أو طبقات اجتماعية جديدة كالنقابات، وفئات من رجال الأعمال، ورجال الفكر ممن هم فاعلون في الحقل السياسي والإعلامي والاجتماعي).
والنخبة، بفريقيها، هي مناط بحثنا؛ لما لها من دور حاسم في حياة المجتمع بصفتها الفئة الغالبة والحاكمة والمالكة والمتكلمة. الشيء الذي يخولها قيادة المجتمع، وإعادة صهره وصياغته إيجابا أو سلبا. خاصة إذا علمنا أن المغلوب مجبول على تقليد واتباع الغالب، و"الرعية على قلب الأمير".
ولكي تظل النخبة نخبة، وتحافظ على مكانتها المتميزة في المجتمع، فإنها تخلق الشروط والوسائل الكفيلة بضمان تفوقها وبقائها، وترسم الأهداف وتضع الخطط وتختار الأساليب الكفيلة بتحقيق ذلك. وغالبا ما تكون خياراتها وخططها موضوع جدل وصراع بين مكونتيها يتحدد من خلاله موقع كل منهما في رأس الهرم.
وتختلف طبائع النخب باختلاف وقودها؛ أي ثقافاتها وخياراتها. إذ كل إناء بالذي فيه يرشح. وباختلاف طبائع النخب تختلف العهود السياسية في أوطانها.
وكمَثَلٍ على ذلك سنستعرض تعاطي النخبة مع الشأن الوطني في بلادنا خلال ثلاثة عهود مختلفة:
أ ـ تعاطي النخبة مع الشأن الوطني في عهد الاستقلال
عندما كانت بلادنا مستعمرة تتوق إلى الاستقلال، كانت النخبة الموريتانية -على ضعفها وقلة عددها ومحدودية تجربتها- تحمل ثقافة وطنية أصيلة وديمقراطية عصرية طبعت خياراتها وبرامجها وأهدافها، فاتجهت عموما إلى تحقيق الهدف الوطني بالوسائل الديمقراطية:
* كنا مستعمرة فسعت النخبة إلى تحقيق الاستقلال،
* وكنا إمارات وجهات وقبائل وشعوبا مختلفة، فوضعت النخبة أسس الوحدة الوطنية،
* وكنا أحزابا سياسية متعددة المشارب والأهواء، فوحدت النخبة الجهود وألفت حكومة وحدة وطنية،
* ولم تكن لنا عاصمة فأخرجت النخبة عاصمة عصرية من بين الرمال،
* ولم تكن لدينا دولة فجعلت النخبة أولويتها إنشاء دولة ذات مؤسسات عصرية من عدم.
لم تتمرد إمارة من الإمارات أو جهة من الجهات أو أقلية من الأقليات على خيار الوطن، أو يتخلف حزب من الأحزاب عن مقعده على طاولة الحوار؛ بدءا بحزب النهضة اليساري وانتهاء بالحزب الاشتراكي الإسلامي اليميني. ولم تدم "اتمولية"* إلا أشهرا، وعاد معظم الذين هاجروا إلى المغرب إلى حضن الوطن.
وحتى عندما تمرد الشباب على الاستعمار الجديد وخرج على الحزب الواحد وطالب بإصلاحات جذرية، واحتدم الصراع بين مختلف القوى والتيارات السياسية حول الرؤى، وكاد زمام الأمور يخرج عن السيطرة. هنالك تغلبت الحكمة وانتصر العقل، فكانت مراجعة الاتفاقيات الاستعمارية، وإنشاء العملة الوطنية الأوقية، ومهرجان الشباب في أغسطس 1974، وتأميم ميفرما وسوميما وبياو التي شكلت، مع اسمار والخطوط الجوية الموريتانية ومصنع السكر ومصفاة البترول واستصلاح سهل امبوريي في روصو والمعهد الزراعي ومصنع اللحوم في كيهيدي وطريق النعمة ومشروع ميناء انواكشوط.. وغيرها، قواعد اقتصاد وطني عصري واعد؛ وتم إرساء الوحدة الوطنية من جديد حول تلك المنجزات. ذلك أن الجذر المشترك يومئذ بين جميع مكونات النخبة كان المصلحة الوطنية العليا؛ فهبوا إليها جريا وهرولة وحبوا كل حسب طاقته، وقناعته.
وهذا ما جعل الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله يقول بحق في الصفحة 150 من كتابه "موريتانيا على درب التحديات" ما يلي: "20 مايو 1957... لقد كان هذا التاريخ بداية فترة غير عادية بالنسبة إلي، فقد كان علي خلال العشرين سنة التالية أن أقود وأنسق الجهود الرامية إلى إنشاء الدولة - الأمة الموريتانية وإرساء دعائمها.
نعم أقول إنني كنت أقود وأنسق الجهود... وهذا يعني، كملاحظة أولى، أن بناء وطني لم يكن عملا شخصيا فقط، لقد كان - على العكس من ذلك تماما - عملا جماعيا أدته الأغلبية العظمى من الشعب الموريتاني، وشاركت فيه مختلف الفرق القيادية التي تعاقبت على تولي السلطة معي خلال عقدين من الزمن.
... لقد كانت هذه الفترة فترة تطلع وحماس، لأنها فترة بناء الوطن الموريتاني؛ وهي - في الوقت ذاته- فترة المتاعب بالنظر إلى جسامة الصعوبات التي تكتنف مثل هذا المشروع وتعددها.
وأود التأكيد هنا على أن النتائج التي تحققت يعود الفضل فيها إلى الشعب الموريتاني بكافة مكوناته العرقية والاجتماعية ابتداء من سنة 1961 ولاسيما بعد 1964".
____________
*لجوء بعض قبائل الحوض الشرقي إلى جمهورية مالي.