ليس الهدف من هذه الوثيقة محاكمة هذا الحكم أو ذاك، ولا أي تقييم لمسيرة بلادنا من الاستقلال حتى اليوم، فتلك مهمة تعود للمؤرخين الذين يتعين عليهم القيام بها في الوقت المناسب بكل موضوعية وتجرد.
ودون التقليل من شأن ما تم إنجازه في الماضي،
أو التنكر للخطوات التي تحققت لاحقا في مختلف مناحي الحياة الوطنية، فإن قصدنا يهدف، بدلا من ذلك، إلى أن نستشرف المستقبل وأن نتساءل لماذا ظلت نخبتنا السياسية، كلما تعلق الأمر بالقضايا التي ذات الصلة بالمستقبل، تختار- دائما- طريق التصادم والانسداد، وكأنه قدر محتوم لا بديل عنه.
رغم مرور أزيد من نصف قرن من الاستقلال، لماذا لازلنا نراوح نفس المربع تقريبا، و نردد، بدون جدوى، نفس التساؤلات المحرجة ؟
لماذا خيار وحدة المصير والأرض، والثراء النابع من التنوع والتناغم والحيوية الثقافية لشعبنا، التي تؤسس لبناء الأمم التعددية، لماذا ترك مكانه تدريجيا للشك والانطواء والضغائن ؟
وكيف لنا ألا نقف ضد الوصمة المشينة والتهميش الموروثين من عهد اجتماعي بائد وقعت ضحيته نسبة هامة من مواطنينا، ولا يزال يفرض تراتبية وحواجز بالية وظالمة ؟
ما سر إصرارنا الدائم علي تجاهل واجب العرفان و رفضنا للتعبير عن امتناننا لكل من أسهموا في بناء وطننا، بجميع انتماءاتهم، و تركوا بصماتهم على تاريخه و دافعوا عنه بأرواحهم، ومن ساهموا في إشعاع ثقافته و قيمه و رفعوا عاليا راية وحدته وعملوا على تكريس الحرية و التسامح، و جنبوه الانقسام و العنف و الفوضى ؟
وفي النهاية، ما هو المجتمع الذي نريد أن نورثه لأبنائنا وللأجيال القادمة: هل هو مجتمع تائه بدون معالم، وتنخره الخلافات والصراعات ؟ بل على العكس من ذلك، ألا تملي علينا جميعا مسؤوليتنا التاريخية أن نعمل ابتداء من الآن على بناء مجتمع موحد، قوي بعقيدته الإسلامية وحريص على صيانة تنوعه وانسجامه، مجتمع تسوده العدالة و المساواة، مجتمع عصري ومتسامح يرفض كل أشكال التطرف ويستعيد قيمه الأصيلة المتمثلة في الامتنان و النزاهة والاستقامة الأخلاقية والتضامن ؟
أليس من الأهمية بمكان أن تلج موريتانيا، دون تأخير، نظاما سياسيا ديمقراطيا مستقرا، تشيد فيه مؤسسات قوية وذات مصداقية، وتعيش التناوب السلمي على السلطة وتداولها بصورة دائمة بانتظام وهدوء؟
ألم يحن الوقت لنتساءل حول نجاعة وفعالية خياراتنا وبرامجنا الاقتصادية في الوقت الذي لا يزال الفقر والبطالة الكثيفة وضعف القوة الشرائية هي النصيب اليومي للأغلبية الساحقة من المواطنين؟
ألا ينتابنا القلق العميق أمام حالة الانهيار التي تعيشها منظومتنا التربوية، وكيف نخلصها معا من شحنتها العاطفية حتى نستطيع أن نجعل منها أداة فعالة لترقية وتعزيز رأس المال البشري في بلادنا، وكيف نجعل من مدرستنا البوتقة التي يتم فيها صهر مواطن الغد المتسلح بالعلم والمدنية، و نمنح المعلم الأهمية والاحترام اللذين هو أهل لهما و الأسرة التعليمية جمعاء العناية التي تستحقها.
تلكم أسئلة من بين أخرى تخاطب ضمير النخبة في بلادنا وتتطلب حلولها عرضا سياسيا جديدا قادرا على تلبية التطلعات المشروعة نحو التقدم والانعتاق التي تعبر عنها وبحق غالبية مواطنينا، وذلك في إطار توافقي بعيدا عن الخلافات العقيمة والمواقف العدائية التي أنهكت البلد وأضعفته بما فيه الكفاية.
ولهذا الغرض نقدم اقتراحات مرتبة في إطار مسار توافقي، تبدأ باتفاق تمهيدي وتنتهي بعقد وطني يستمر للفترة الكافية (10 سنوات) لتنفيذ وإنجاح الإصلاحات المنشودة.
1. الاتفاق التمهيدي: يونيو 2017
الموقعون:
- الأحزاب السياسية المعترف بها قانونيا، من الأغلبية والمعارضة
- ممثلو المجتمع المدني
تتعهد الإطراف الموقعة بتقديم دعمها في إطار توافق وطني واسع لتحقيق الإصلاحات الضرورية بالنسبة لموريتانيا.
في المقدمة تنطلق الأطراف الموقعة من الاعتبارات التالية:
- على الرغم مما تحقق من تقدم معتبر في ميادين الحياة الوطنية المختلفة، فإن جملة من الإشكاليات الجوهرية كالوحدة الوطنية والتأسيس لنظام سياسي مستقر وبناء دولة القانون والنهوض بالاقتصاد وتطوير أدائه وانبثاق مجتمع عصري تسوده المساواة، ستظل عوامل تضعف انسجام شعبنا وترتهن مستقبل بلدنا ما لم توجد لها حلول توافقية مناسبة.
- في عالم مضطرب وخطير، فان الدول ذات الانسجام الداخلي الهش أصبحت عرضة لكل أنواع محاولات زعزعة الاستقرار، والاخضاع والهيمنة، سواء كان ذلك بذريعة الأطماع الخارجية، أو الصراع من أجل السلطة، أو محاولات التقسيم والتفرقة، وسواء كان بحجة متطلبات الوقوف في وجه التطرف والنشاطات الاجرامية. إن موريتانيا ليست بمنأى عن هذه المخاطر.
- إن السياق الدولي وانعكاساته القريبة لمن ما يزيد في تعقيد مهمة حكامنا، مهما كانوا، لا سيما عندما تكون الجبهة الداخلية متصدعة. وقد أدى ذلك بكثير من البلدان إلى الانزلاق في مهاوي الفوضى لأنها لم تستشعر حجم المخاطر المحدقة بها، وظلت الطبقة السياسية حبيسة نزاعاتها وخلافاتها المزمنة.
2. إعادة تنظيم الساحة السياسية الوطنية: ديسمبر 2017
ينظر الرأي العام الوطني إلى الأحزاب السياسية الموريتانية (أكثر من 100) باعتبارها فضاء لتمييع وتتفيه الفكر والعمل السياسيين، ومكانا لحبك الخطط والخيارات الأكثر انتهازية،والتنكر للمواقف وتغييرها بصورة مذهلة. إن غياب مراجع أو توجهات واضحة فإن مبرر وجود هذه الأحزاب، ما عدا قلة قليلة، قد انحصر في تأييد أو رفض الأحكام القائمة، مما أفقد مسبقا كل تناوب على السلطة معناه ومغزاه السياسيين.
إن هذا الدأب أفقد هذه الأحزاب كل مصداقية، وأصبح من الملح بناء هذه المصداقية. الأمر الذي يتطلب، من جهة، وضع حد للتشرذم، ومن جهة أخرى، تقوية أسس ودور هذه الأحزاب عن طريق ابراز البرامج والمشاريع المجتمعية المقترحة.
ولإنجاح هذا العمل الضروري المتمثل في إعادة بناء المشهد السياسي الوطني الذي يطبعه التفتت والفوضى، فإنه من المهم الاكتفاء بعدد محدود من الأحزاب السياسية (في حدود 12) تكون لها توجهات سياسية واقتصادية واجتماعية بارزة، تعبر عن مختلف الحساسيات والآراء السائدة في المجتمع الموريتاني. إذ يكفي هذا العدد لتمكين المواطن الموريتاني من اختيار بكل وضوح الإطار الحزبي الذي يعبر أكثر عن مشاغله وانتماءاته الفكرية.
يتطلب هذا الإصلاح التنظيمي للمشهد السياسي الوطني مدة ستة أشهر. ويمكن أن تتم هذه العملية التنظيمية بصورة طوعية، كما يمكن أن تكون إلزامية.
يقترح على الطبقة السياسية الاختيار من ضمن 12 أطر تنظيمية (كما هو موضح أدناه).
ويتم إعطاء الأفضلية للاندماج الطوعي انطلاقا من التشكيلات السياسية القائمة.وتتم عمليات الاندماج على أساس التلاقي في المشارب والمشاريع المجتمعية المعبر عنها في الإعلانات المرجعية للأحزاب ذات المشروعية التاريخية أو الانتخابية، الحالية أو السابقة، التي لا مراء فيها (تعتمد معايير موضوعية لذلك).
وتتم عمليات التجميع الإلزامي عند الاقتضاء بواسطة الحل ثم إعادة التشكيل.
وتقدم الوزارة المكلفة بالداخلية مساعدتها في هذه العملية بالدقة والسرعة المطلوبتين، وتتحمل الدولة التكاليف المترتبة عن إعادة التشكيل بما في ذلك النفقات الخاصة بالأحزاب السياسية (المؤتمرات، الاجتماعات، الوثائق).
أطر التنظيم السياسي المقترحة
التوجه العدد
الليبرالي 2
الإسلامي 2
الاشتراكي 2
القومي 2
الديمقراطي الاجتماعي 2
البيئي 2
وبالطبع لن يقبل في هذا الإطار بالترخيص لأي حزب ذي طابع جهوي أو قبلي أو طائفي أو فئوي.
وسيكون تجذر الأحزاب وتمثيلها على المستوى الوطني، وتشكيل مؤتمراتها، ودوائر منادبها، ونتائجها الانتخابية على المستوى الوطني، بمثابة المعايير الثابتة لتقويمها.
3. تنظيم انتخابات تشريعية سابقة لأوانها: يونيو 2018
المشاركون:
الأحزاب المنبثقة عن إعادة تنظيم المشهد السياسي.
سيتم مسبقا:
- وضع آلية تضمن إبعاد الإدارة وجميع المؤسسات العمومية عن المنافسة الانتخابية،
- إدخال تحسينات على المدونة الانتخابية،
- تعيين لجنة انتخابية مستقلة جديدة،
- تأطير تمويل الحملات الانتخابية عبر القانون
- إعداد السجل الانتخابي،
- إعداد لوائح للناخبين،
- اعتبار معيار الإقامة،
- الولوج لوسائل الاعلام العمومية،
- ...........إلخ.
4. توقيع العقد الوطني: أكتوبر 2018
المـوقعـون:
رئيس الجمهورية
الأحزاب الممثلة في البرلمان الجديد
ممثلون عن المجتمع المدني
- تكون مدة سريان هذا العقد عشر سنوات لا رجعة فيها؛ من فاتح نوفمبر 2018 إلى فاتح نوفمبر 2028.
- يوقع رئيس الجمهورية على العقد ويكون ضامنا لاحترامه وتنفيذه.
- ليحقق العقد الهدف المتوخى منه والمتمثل في توحيد الموريتانيين جميعا حول برنامج أولويات سياسية واقتصادية واجتماعية لمدة عشر سنوات، فإن هذا العقد سيقضي في أحد بنوده بأنه مهما تكن نتائج الانتخابات الرئاسية، سيكون التناوب سلميا وهادئا. وستلتزم الأطراف الموقعة على العقد بأن لا تساند أو تقوم بأي عمل أو مبادرة ذات طابع سياسي أو قضائي قد يتضمن تشكيكا في العقد أو تحريفا لدلالته أو مراميه.
- يقدم الجيش الوطني عبر قيادته دعمه لهذا العقد.
- يسفر العقد فور توقيعه عن تشكيل حكومة وحدة وطنية تشارك فيها أهم القوى السياسية الوطنية الممثلة في البرلمان الجديد. ولا مانع من الاستفادة من تجربة بعض الشخصيات المستقلة ذات الكفاءة المشهودة. ويختار الوزير الأول الذي سيقود حكومة الوحدة من صفوف الأغلبية الجديدة.
- من اجل إشراك كافة الموريتانيين، دون استثناء، في تحقيق هذا الإجماع، سيتم، في إطار العقد، استحداث مجلس استشاري يدعى "مجلس الوحدة" تكون تشكيلته و مهامه على النحوي المبين أدناه
- يتم إشعار المجموعة الدولية والمانحين بهذا العقد مع طلب دعمه ومؤازرته.
- ونظرا للبعد التاريخي لهذا العقد، سيطلب من الصحافة الوطنية، بعد إعادة تنظيمها، ومع المحافظة على حريتها، أن تقدم مساندتها لهذا العقد.
- وسيتم تشكيل هيئة تحدد تشكيلتها وصلاحيتها في إطار العقد وتتولى المهمة السامية المتمثلة في تطبيق هذا العقد ومتابعته تحت إشراف رئيس الجمهورية.
5. مجلس الوحدة: نوفمبر 2018
تتمثل المعركة المركزية في القيام بإصلاح البلد بصورة جذرية، ووضع أسس قوية للتجديد، وهدم العراقيل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، الواحد تلو الآخر، وتعويض التأخر حيثما وجد وفي كل الميادين والتغلب عليه.
ومن أجل ذلك يجب تحريك المجتمع بأسره، وعدم تهميش أي أحد. يجب العمل أولا على إجماع النخبة السياسية التي طالما انشغلت بخلافاتها وتناقضاتها، مع احترام تنوعها وانتماءاتها. كما يجب اشراك المجتمع المدني بحيويته، وخاصة المدافعين منه عن حقوق الإنسان، وعالم الشغيلة ومنظمات الشباب والنساء وشبكات التواصل الاجتماعي.
ومن اللازم أيضا التغلب على ركود موريتانيا العميقة التقليدية المكبلة بمشاكلها اليومية وتناقضاتها. تجب تعبئتها على نطاق وطني واسع في إطار تنظيمي مناسب للوحدة والعمل، يكون بمثابة مجلس استشاري يدعى "مجلس الوحدة"، ينتدب لمدة عشر سنوات.
يسعى هذا المجلس بالتفاعل مع جميع الهيئات السياسية القائمة ومنظمات المجتمع المدني إلى توفير السند والدعم القوي للتحولات والتغييرات التي تفرضها أوضاع البلد على جميع المستويات وفي مختلف المجالات، مع توخي السلاسة والإقناع وتجنب المقاربات صداميه.
سوف يعكس "مجلس الوحدة" تشكيلة الشعب الموريتاني اجتماعيا وديمغرافيا، ويقدم رأيه في القضايا الوطنية الكبرى، ويدعم ميدانيا و بالقوة المطلوبة مجمل الإجراءات الرامية إلى تعزيز وحدة الموريتانيين واستئصال الرق ومخلفاته. كما سيسعى إلى القضاء التام على العقليات الجماعية المتخلفة والظلامية، والخطابات الضبابية المعيقة لتحرر المجتمع من أغلال البنى الاجتماعية البائدة.
يتشكل "المجلس" من شخصيات من جميع المكونات الوطنية والشرائح والفئات الاجتماعية المهمشة. كما سيضم أطرا سياسيين سامين، ومثقفين وفاعلين اقتصاديين وعمالا وصحفيين، ورجالا ونساء معروفين بالتزامهم وتجربتهم المتميزة...إلخ.
يتشكل "المجلس" من 325 عضوا يعينهم رئيس الجمهورية بناء على اقتراح من وزير الداخلية انطلاقا من لوائح أعدت في كل ولاية بإشراف لجنة تضم المنتخبين المحليين (النواب، الشيوخ، العمد)ويرأسها الوالي، ولا يمكن لأعضاء هذه اللجنة العضوية في "المجلس"، وينطبق الأمر نفسه على جميع أعضاء الهيئات القيادية التنفيذية والوطنية في الأحزاب السياسية.
يترأس رئيس الجمهورية اجتماعات "مجلس الوحدة" ويعين منسقا تساعده هيئة للسكرتارية للسهر على حسن سير أعمال "المجلس". يتم التجديد الجزئي للمجلس بمبادرة من رئيس الجمهورية.
تكون وظيفة عضو المجلس (المستشار) مجانية. وتتحمل ميزانية الدولة نفقات تسيير المجلس بما في ذلك تكاليف تنقل الأعضاء الداخلة في إطار مهام "المجلس".
6. الجدول الزمني للانتخابات المنظمة في فترة العقد
- الانتخابات الرئاسية في يوليو 2019
- الانتخابات التشريعية في يونيو 2023
- الانتخابات الرئاسية في يوليو 2024
- الانتخابات التشريعية في يونيو 2028
7. نهاية العقد: نوفمبر 2028
سيبقى العقد إطارا للتشاور بين القوى السياسية الوطنية واستجابة متميزة لكي لا تتحول الخلافات المشروعة في طرح القضايا الوطنية، أو المطالبات المختلفة، أو الصراع حول السلطة، إلى نزاعات مستعصية تهدد وحدة البلد أوانسجامه أو أمنه الوطني.
وفضلا عن الحالة الموريتانية الخاصة، قد تشكل هذه المقاربة الفذة نموذجا لكثير من بلدان قارتنا المعرضة باستمرار للنزاعات والاضطرابات السياسية المفضية إلى عرقلة المجهودات التنموية وإبقاء الشعوب الافريقية عرضة للفقر وانعدام الأمن، مما يضطر الكثير منهم إلى اتخاذ سبيل اللجوء والتشرد.