استقلت موريتانيا منذ أكثر من 56 سنة، ورغم ذلك لم تتمكن من تجاوز مرحلة التأسيس بكثير، ويبدو أن الموريتانيين عموما وخصوصا منهم "البيظان" لا يصلحون إلا للحياة البدوية، بعيدا عن إكراهات الحياة الجماعية المنظمة، وبوجه خاص تحت مظلة دولة لها قوانين في كل مجال يتطلب ذلك.
ويكاد يكون وصم الفشل جائز الإطلاق على المرحلة المنصرمة بكاملها، من يوم الاستقلال وإلى اليوم تقريبا.
وقد برع الموريتانيون، على الصعيد الرسمي خصوصا، وعلى اختلاف الأنظمة المتعاقبة، في تكريس القبلية في أداء المهام الرسمية، كما ظلت الرشوة متفشية، ولا سبيل للحصول على غاية في ظل الدولة إلا عبر الرشوة، وقد تفننوا في سبل الحصول عليها، كلما ارتفع صوت الإعلام والاحتجاج ضدها، وفي هذا الجو أضحت حرمة المال العمومي منتهكة بامتياز، وتواصل التشبث بالنظرات والنعرات الضيقة، خصوصا القبلية والجهوية، إلى جانب الميل لعرق الانتماء على حساب مصالح الأعراق الأخرى، مما عوق مفهوم المواطنة والمساواة، ولهذه الأسباب وغيرها ظلت الدولة الموريتانية، عاجزة عن تحقيق النجاح، ولو في مستويات مقبولة، وتعذر التناوب على مقعد الرئاسة بطريقة حضارية سلمية، مفضلين على مستوى المؤسسة العسكرية خصوصا، الهيمنة على دفة الحكم واحتكار أغلب المنافع، دون أن يقتصروا على المهمة الجمهورية الأصلية للجيش.
إذن فشل بالمعنى العام، في الوقت الذي عندما نقارن واقعنا المحلي، وفي باب الدولة الرسمية بوجه خاص، مع تجربة الدول المجاورة، نلاحظ الفرق الشاسع والتفوق علينا تقريبا في كل مضمار، رغم تقارب تاريخ النشأة والوجود، بالنسبة لبعض الجيران.
فالسنيغال حافظت على الطابع المدني والديمقراطي والتناوبي للحكم، دون إقحام العسكر في المجال السياسي أو رفض للتناوب، ضمن ميل واضح للمسلكيات السياسية الحضارية، الأقرب لإنصاف الشعب ومحاربة الاستبداد، في إطار تجربة سياسية ديمقراطية بامتياز تقريبا، مع نجاح واضح في مجال التعليم والصحة بوجه خاص، والجميع يعرف سفرنا إليهم للدواء والتعلم، وهذين مجالين من أبرز انشغالات المجتمعات البشرية عموما والمعاصرة خصوصا، التعليم والصحة.
أما واقع القطاعين عندنا، فهما في الحضيض باختصار، رغم ما تبقى من نجاح نسبي في المجال التقليدي المحظري، موروثا عما قبل الدولة، وهو كسب اجتماعي خالص، بسبب تمسك شعبنا المسلم بهويته، على اختلاف مشاربه دون أن يكون للدولة الرسمية في هذا الميدان المحظري كبير إسهام، رغم بعض الجهود المتواضعة، إلا أن الجهد البارز في هذه الساحة المحظرية التعليمية والتربوية المشرفة، ظل شعبيا بالدرجة الأولى.
وفي ساحة البنية التحتية عموما والطرقية خصوصا، تبدو الجسور أكثر وأدعى للانسيابية والحركية في النشاط المروري، على مستوى العاصمة دكار، وهو أكثر مساعدة في الحفاظ على الأرواح بوجه خاص، أما عندنا فقد أضحى طريق الأمل انتحاريا بمعنى الكلمة، ولم يسلم منه كثير من المستخدمين، للأسف البالغ.
وتخضع المقاولات في هذا الميدان الطرقي وغيره عندنا، لمستوى فائق من التلاعب والخيانة في حالات كثيرة، وإن لم يمنع هذا وجود حالات استثناء، لم ترقى إلى التأثير الإيجابي على هذا القطاع الحساس، بل لوحظت الزبونية ذات الطابع العائلي في الفترة الأخيرة، في حيز إنجاز الشبكة الطرقية داخل البلاد عموما وفي العاصمة خصوصا.
مع تعثر الزراعة والصيد وغيرهما من المجالات الحيوية ونجاحها بصورة باهرة عند غيرنا من بعض الجيران، وخصوصا الزراعة في المغرب، رغم فارق السن من حيث التجربة وتاريخ نشأة الدولتين: موريتانيا والمغرب.
وفي الجزائر كان المجال التعديني أظهر وأنفع، بالنسبة لاستخراج واستثمار الغاز بصورة خاصة، أما معادننا رغم كثرتها "حديدا وذهبا وغازا ونفطا ونحاسا وغيره"، فلم تفلح كثيرا في جلب النجاح الاقتصادي، لهذا الوطن المتنوع الثروات مع فشل جلي في ميدان التسيير والانتفاع.
ثروة حيوانية معتبرة وسمكية مبهرة ومعدنية قابلة للمنافسة العالمية، ومع ذلك فشلت كل هذه الثروات في خلق نجاح اقتصادي أو سعادة نسبية للسكان المحدودى العدد، أقل من أربعة ملايين نسمة حسب الإحصاءات الرسمية الأخيرة.
إلى جانب إستمرار التأزم السياسي، بل والاحتقان والانسداد والارتهان لاجتهادات بعض العسكر الانقلابيين منذ 1978 وإلى اليوم.
أفلا يدعو هذا الفشل العارم العام، ومدة فترة طويلة "من 1960-2017" للشفقة والحيرة والتأمل الجاد؟
ورغم النجاحات النسبية لمرحلة التأسيس، بسبب معوق التخلف الحضاري وحرب الصحراء الغربية وسيادة القبلية والعرقية على مفهوم الدولة الجامعة، إلا أن ما تبع ذلك من أحكام انقلابية متفاوتة السوء والفشل، كرس عموما فشل حقبة كاملة فعلا، من1960 وإلى اليوم، مع إستمرار نفس الملامح والمعوقات الذهنية، التي قد تسمح باستمرار هذا الفشل إلى مدى زمني أكبر، وآثار ربما لا قدر الله أكثر مرارة، في ظل تزايد الدعوات ذات الطابع العرقي والشرائحي واستمرار الحكم العسكري الانقلابي، مما يستدعي ضرورة وسرعة إقصائه وإبعاد الأساليب المانعة للشفافية في تسيير الحكم العمومي والمال العمومي، والحد من الطمع الزائد في هذا الأخير بلا وجه حق أحيانا، كما يعتبر تكريس روح المواطنة ومفهومها ملحا واستعجاليا، قبالة القبلية والجهوية والعرقية.
ومما يبدو مثيرا ومدمرا شيوع طموح الموريتانيين عموما للثراء الواسع، بغض النظر عن الثمن الأخلاقي والأخروي.
ومما يدعو للتذكير باستمرار بضرورة إحترام الدولة والنظام العام مهما كانت وضعيته نفور الموريتانيين من الحياة الجماعية المنظمة ورفض الخضوع لاكراهات قوانين الدولة ونظمها المختلفة، رغم استسلامهم وارتهانهم للحكم الانقلابي وطابعه الاستبدادي، وهو المعروف بسطوته العبثية على الشأن العام عموما.
إن المسؤولية العمومية أمانة ثقيلة والمواطنة مدعاة وضرورة ملحة للحياة الجماعية الأخوية الإيجابية، وواقعنا المتخلف إلى حد سحيق يدعونا لأخذ العبرة من الغير، وكما يقال في المثل العربي ،السعيد من اتعظ بغيره.
وباختصار كفانا تخلفا وتقوقعا في ساحة الكسل والقبلية والعنصرية وضيق الأفق الحضاري، فلا نجاح من دون التعايش الراقي المسالم، ورسم خارطة طريق طموحة للإقلاع نحو بديل أفضل وأكثر أمانا لبقاء هذه التجربة الهشة، الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.