علقت العديد من الأطراف السياسية المحلية والدولية الأمل على الوساطة السنغالية في أزمة الشرعية الدستورية التي تعرفها موريتانيا منذ عام 2008، وقد أخذت الوساطة السنغالية أهميتها من خلال وقوف السند الدولي وراءها ممثلاً في الاتحاد الإفريقي ومنظمة الفرانكفونية وكذا وجود العديد من المؤشرات على
مساندة فرنسية للدور السنغالي.
أولاً: خلفية تاريخية عن الدور السنغالي في موريتانيا
تبدو الوساطة السنغالية خفية البواعث وتبعث على الريبة أكثر إذا ما نظرنا لكون السنغال كانت دوماً خلال العشرين عاما الماضية خصما لموريتانيا في العديد من المواقف الإقليمية والدولية، نظرا لوجود اختلال سياسي متأصل موروث عن الاستعمار، وزاد من حساسيته الأزمات التي عرفتها علاقات البلدين في العقود الأخيرة، حيث لم تتحرر موريتانيا من النفوذ السنغالي إلا بعد معارك وأزمات أمنية وسياسية ودبلوماسية جعلت البلدين باستمرار يقفان على شفير الهاوية في إطار علاقاتهما الجغرافية والبشرية المتداخلة باستمرار عبر التاريخ، وفي إطار التدافع الاستراتيجي لعلاقات شعوب الإقليم وما طرأ عليها من تحولات سياسية غذتها إرادة الإخضاع الاستعماري التي جعلت من السنغال قاعدة لإدارة شؤون إقليم غرب إفريقيا وتحديد وظائفه وضبط علاقاته فيما كان يعرف في القديم بالأقاليم الفرنسية ما وراء البحار والذي لا يزال حاضرا لدى دوائر صنع القرار الفرنسي للسياسة الخارجية بقوة.
وقد تعود الجهاز السياسي والقيادي في السنغال أن ينظر إلى موريتانيا باعتبارها دويلة مصطنعة للشعوب البدوية في الصحراء، حيث لم تنشأ الدولة الحديثة في موريتانيا إلا من خلال الإرادة الاستعمارية الفرنسية وبأدوات سنغالية، هكذا ينظر جيل الساسة السنغالي الحالي لموريتانيا باعتبارها صنعت على أعينهم، والذي يرتسم في مخيلة هؤلاء أنهم أصحاب وصاية على هذه الدويلة التي ينبغي أن تبرز من خلالها عبقرية القادة السنغاليين الإقليمية.
غير أن تحولات كثيرة عرفتها موريتانيا خلال حكم الرئيس الأسبق معاوية ولد الطائع عكرت صفو طموحات النخب السياسية السنغالية في موريتانيا، ونجحت دبلوماسية ولد الطائع في إثبات شخصية سياسية جديدة لموريتانيا المتمردة على التبعية للخطوط العريضة للسياسة الفرنسية والسنغالية في الإقليم، لكن ولد الطائع الذي وظف علاقاته مع الولايات المتحدة وإسرائيل لكي تساعده في الخروج من شرنقة الارتهان للسياسة الفرنسية لم يخرج عن السياسة الفرنسية في أبعادها الجوهرية، وظلت خرجاته على أوامر فرنسا مقتصرة فقط على توجيهات السياسة الفرنسية المتأثرة بالرؤية السنغالية، واختط لنفسه طريقة جديدة جعلته يصنف نفسه شريكاً متعدد الأبعاد «عربيا» و «إفريقيا» لأوروبا، وهو ما ساعده أكثر على الظهور بمظهر «العبد الآبق» على أسياده الفرنسيين، وساعده على لعب هذه الأدوار صعود تيارات القومية العربية في الداخل ودعم الأنظمة العربية الثورية في الخارج، وهي كلها عوامل جعلت الربيب يتمرد على مربيته وحاضنته رافضاً استمرار دور الوصاية بنجاح كبير.
ثانياً: السنغال ودور المستثمر للأزمات الموريتانية
تنبهت السنغال بذكاء ومهارة سياسية لافتة مع استلام المعارض العتيد عبدالله واد للسلطة إلى المتغيرات التي طرأت على السياسة الإقليمية وموقع موريتانيا فيها مبكرا، خصوصا بعد أزمة الأحواض الناضبة ورفض موريتانيا لمشاريع السنغال الطموحة والمجحفة بالشراكة التنموية التي حددت أطرها مواثيق منظمة استثمار نهر السنغال، واتجهت السنغال لاحتواء مزاج ولد الطائع المنزعج من انعكاس تحولات وصول المعارضة السنغالية للسلطة، واتجه واد للتهدئة السياسية بعدما بدأت السلطات الموريتانية في فتح حدودها في عام 2000 لآلاف السنغاليين للعودة إلى بلادهم، وهي إشارة نبهت السنغال إلى أن أوراق ابتزاز ولد الطائع كانت قد تساقطت في حقبة التسعينيات خلال حكم الرئيس السنغالي السابق عبدو جوف بعد أحداث 1989 وما تلاها. فاتجه الزعيم السنغالي الجديد لمداعبة ولد الطائع ومحاولة اللعب على جنون العظمة الذي تغذيه عقدة النقص المتأصلة في شخصية الرجل، وقد نجح واد فعلاً في امتصاص مخلفات أزمة الأحواض الناضبة واتجه إلى اعتبار ولد الطائع حكيم إفريقيا وقائدا سياسيا من الطراز الفريد كما جاء في تصريحاته أثناء زيارته لنواكشوط بعد انقلاب 8 يونيو 2003، وساعتها أدرك العقلاء أن واد أفلح في فتح مغاليق شخصية الرجل وبدأ في النفاذ لعقله الباطن وبدأت العلاقات بين البلدين تعود لتشهد مزيدا من التوازن الحذر الذي تغذيه مشاهد التوتر الماثلة في الذاكرة الحية للماضي القريب.
ما إن سقط نظام ولد الطائع حتى احتضنت السنغال لقاء تشاورياً للتيارات السياسية المعارضة لترتيب وصياغة عريضة مطلبية موجهة للقيادة العسكرية الجديدة، ومجدداً غذت حساسيات العلاقة حس السياسيين، وأعطى الحكام الجدد تعهداتهم بالعمل على تنفيذ مطالب المعارضة الخارجية شرط تخلي الحساسيات المعارضة عن تحريك العرائض السياسية من داكار، وتمت تصفية الورقة الموريتانية التي سعت السنغال للإمساك بها لمد جسور جديدة من العمل السياسي والاستراتيجي كانت الأزمات السياسية في التسعينيات قد هدمتها تهديما.
ومع تسلم الرئيس المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله لمقاليد الأمور بدأ أمل عودة الفاعلية السنغالية بموريتانيا يطل من جديد، ويلح على القيادة السنغالية إحياء الطموحات الاستراتيجية للسنغال مع بروز فرصة كون الرئيس المنتخب يرتبط بالسنغال بروابط روحية وفكرية عديدة، وشكلت فرصة عودة اللاجئين الموريتانيين في السنغال مدخلا أكثر من مناسب، وبدأت السنغال تعد لإعادة بناء وجودها الاستراتيجي في موريتانيا مستصحبة وعيا أعمق بالتحولات التي عرفها سياق العلاقات البينية لشعوب الإقليم من جهة، وكذا التحولات السياسية للدولتين من جهة ثانية.
وما إن حصل انقلاب السادس من أغسطس 2008 وتأكد الساسة السنغاليون أن النظام العسكري يسيطر على زمام الأمور حتى اعترفت السنغال بالانقلابيين وبدأت تمارس دورا توجيهيا يستهدف الحصول على أكبر كمّ من المكاسب السياسية والاقتصادية والاستراتيجية. ويشير العديد من المتتبعين إلى أن ما حصل من فتح الجنرال ولد عبدالعزيز ورفاقه لملف «الإرث الإنساني» لم يكن ليحدث دون وجود دور سنغالي ساعد على تعاطي المنظمات الزنجية الموريتانية مع أجندة العسكريين المعلنة لتصفية الملف، ولا يخفى أن نفس الدور السنغالي الضاغط على المنظمات يمكن أن يكون مورس أيضاً على العسكر بأساليب «الإغراء» و «التخويف» بهذا الملف وتداعياته الاستراتيجية القابلة للاشتعال في كل وقت.
ومع كل الملاحظات السلبية أو الإيجابية التي تصاحب الدور السنغالي، فقد نجحت الدبلوماسية السنغالية في أن تكون المحرك الرئيسي للنشاط الدبلوماسي الإقليمي والدولي المهتم بإيجاد حلول للأزمة الموريتانية، وإذا توصلت لحل يرضي جميع الأطراف فإنها بذلك تجدد وصل ما انفصل من دور «الأستاذية الإقليمية» الذي تمردت عليه موريتانيا خلال حقبة ولد الطائع، ورغم أن العديدين يعتبرون الدور السنغالي منحازا للعسكر فإن وجود مجموعة الاتصال الدولية سيشكل عامل تطمين للجبهة والتكتل. ويبقى السؤال معلقا على لقاء دكار: هل سيقود لإنهاء الأزمة، أم سيدفع بها لآفاق جديدة؟