رسالة مفتوحة إلى السادة النواب المحترمين / محمد محمود ولد بكار

أيها النواب الأفاضل؛

أكلم فيكم الروح آلوطنية، روح الإباء والإخلاص، وأنا متأكد من أن أي إنسان عرض نفسه على المواطنين، في سباق نبيل، من أجل "اختيار الأفضل والأحسن والأجدر"، لكي يحظى بتزكية ستة آلاف صوت، إنما قدم نفسه كشخصية مرموقة، في خضم تعهدات مفتوحة، وعلى مسمع من الوطن كله، للدفاع عن مصالح مواطنيه، 

في ضوء الحفاظ على النظام العام، وعلى المكتسبات، وتثمينها، وتحسين أداء الدولة والرقابة على سلامة القوانين والتشريعات، وأوجه صرف الميزانية العامة للدولة، أي أنه إنما قدم نفسه من أجل القيام بمجهود وطني والإضطلاع بدور بناء. أما عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على الإنسجام العام والوقوف ضد التقسيم -لا أعني تقسيم الأرض، لكن تقسيم مشاعر الانتماء والتشبث بوحدة الهدف والمصير وبخطوط  التوافق- يكون البرلماني مسؤولا مسؤولية تاريخية عن أي مجهود سلبي ليلاحقه عبر الزمن كوصمة تهاون وتخل عن مسؤوليته الوطنية. وعندما يكون إيجابيا في تصديه مثلا لتلك الجهود (جهود التمايز) يكون عمله عملا بطوليا وتكملة لبطولات الأجداد الأوائل والنضالات الحديثة من أجل البناء والتراكم الإيجابي نحو إصلاح بنية المجتمع والدولة.

سادتي النواب، لم يكن وجودنا على مليون كلم مربع عطية من أحد، بل جاء عبر تضحيات عظام  من شمال القارة إلى جنوبها، وصولا إلى أوروبا عبر الفتوحات العظيمة، ومن ثم بناء سمعة عبر الآفاق في طول العالم الإسلامي وعرضه، ومكافحة الإستعمار، إضافة إلى النضال داخل الدولة الوطنية على جبهات التحرر وبناء نظام وطني، ومن بعد ذلك من أجل بناء ديمقراطية وطنية مثل كافة شعوب العالم. هذه مسيرة أمة وليست وليدة الفراغ، بل دورة حياة يجب أن لا تموت أو تتوقف  أو تتقهقر بمجهود شخص أو جماعة. لقد اختار المشرع أن تكون الديمقراطية الموريتانية ديمقراطية وظيفية، وقد أخذت إطارها العام من التمسك بالدِّين  الحنيف وقيم المجتمع ووحدة أرضه، واقتبست أغلب موادها من دساتير حيوية  تملك وضوحا كبيرا ليس في حرية الرأي وحده، وإنما في فصل السلطات مثل الدستور الفرنسي والأمريكي، وقد عبر شعبنا عن حفاوة كبيرة بهذا النظام والإستعداد للذود عنه الذي مهد للبحث المستمر عن عملية تحول كبيرة وهادفة، و ليس ذلك لأجل شخص بعينه، بل من أجل إكمال مسيرة الأمة عبر التاريخ. وقد اختارت منظومتنا القانونية تقفي أثر العالم في تحميل البرلمان مسؤولية حراسة النظام العام بواسطة دوره كسلطة تشريعية مستقلة لفرض رقابته على عمل السلطة التنفيذية في تسييرها للمصالح المتعارضة ولكبح جماح أي خروج عن الأهداف والمبادئ العامة، ولكي يظل البلد متماسكا في ضوء هذا الحرص وتوازن القوى بين مؤسساته. وهكذا، بالإضافة  إلى الحصانة والإستقلالية المادية للبرلمان،  فإن مسطرة التشريع تمر بمراحل طويلة: تبدأ بعرض مشاريع القوانين ودراستها من خلال اللجان البرلمانية، ونقاشها في جلسات عامة، وبعد ذلك التصويت عليها، أي أنها مسطرة تجعل البرلماني في وضوح وتؤدة من أمره، وقد أتيحت له كل الظروف والشروط وكذلك الضمانات اللازمة لكي يقوم بمهمته بعيدا عن كافة الضغوط .  ثم ان هذا البرلمان تم تكوينه من عدد كبير من الناس لضمان تلاقح الأفكار وخلق مسؤولية جماعية. وبكلمة واحدة  فإن السادة البرلمانيين ليسوا معذورين في أي عمل يقومون به لمصلحة الأمة أو ضدها.

أيها البرلمانيون الأفاضل، قد تكون هذه هي آخر دورة لكم، بل وبالتأكيد آخر مرة بالنسبة لبعضكم في البرلمان، لكنها ليست هي نهايتكم بين منتخبيكم  وأهليكم، وبالتالي ليست سببا في تخليكم عن مسؤولياتكم الأخلاقية وواجبكم الوطني وصورتكم بين الناس وعن ضمائركم عندما تخلدون إلى أرواحكم وتعودون بأنفسكم لمراجعة مواقفكم وتأثيرها على البلد، وكيف ولماذا كانت  مواقفكم على هذا النحو، وحينها يكون عزيز كرئيس قد أفل نجمه وانتهى ذكره واندرس رسمه وانطفأ وسمه، وأنتم ترون البلد وقد رفعته فعلتكم إلى الاستقرار والتماسك والتحول السلس نحو الديمقراطية الوظيفية التي تلعب فيها كل مؤسسة دورها بمقتضى مبدأ فصل السلطات، وقد قدم مجهودكم درسا في الإيباء للأجيال القادمة، أو ترونه مكبلا بسلاسل التخلف والتمايز، يترنح  في الفقر وعدم الاستقرار، وقد وضعتموه، بموافقتكم على كل شيء،  في الحضيض والفشل وفِي ذيل الدراسات والتخمينات وفي قاع جميع لوائح الفشل. إنها فرصتكم لإثبات مسؤوليتكم أمام التاريخ، وقد تم إستدعاؤكم لمناقشة تسعة مشاريع قوانين من ضمنها مبادرة مراجعة الدستور، تلك المراجعة التي تتسم ببعض المميزات التي تجعل التفكير فيها قبل المصادقة عليها أمرا ضروريا من أجل خدمة الوطن:

- أنها تأتي في جو يطبعه الشحن العاطفي والإحتقان السياسي وعدم الثقة بين الفاعلين الأساسيين في البلد.

-   أن هذه المراجعة لن تحل الأزمة السياسية القائمة في البلد والتي انعقدت جميع الحوارات لأجل تجاوزها.

- أنها ستكون ضمن إرث ثقيل للنظام الذي دحض كل المبادئ (المساواة، العدالة، الشفافية،  بسبب غياب العقلانية  والنظام في كل عمله) وغياب المؤسسات  مع المديونية   الضخمة زهاء خمس مليار دولار أي ما يعادل  (٩٤٪‏ ) من إجمالي  الدخل الوطني، مديونية شاقة على مدى عشرين سنة القادمة، خاصة أنها غير مبررة بسبب أنها تزامنت مع فترة انتعاش كبيرة بالنسبة لأسعار المواد الخام التي ينبني عليها اقتصاد البلد، وكذلك إرث ثقيل  بالنسبة لبث روح الفرقة والتوترات الاجتماعية على قاعدة إتنية وتقسيم  الثروة والمناصب والصفقات والأرض والإحتكارات، بشكل يعزل أصحاب الأهلية والحق ويكرس الغبن والجشع ويخلق الحنق وروح الإنتقام عند الغالبية ، وإرث ثقيل من ستغلال  السيء للسلطة وللقضاء لزرع المشاكل وتصفية الخصوم والحسابات  وفِي التعاطي مع مطالب المواطنين وفِي الضرائب والأسعار وغيرها ، عشر سنوات بنصف قرن .

- أنها (أي الإصلاحات الدستورية المقترحة) سبب في تقسيم البلد وتمزيقه لأن العلم والنشيد يملكان شرعية سياسية كبيرة بالنسبة لخمسين سنة من تاريخ البلد، ويرمزان لحقبة لا يريد الكثيرون تجاوزها دون أن تكون ضمن سياق مراجعة عامة للكثير من القضايا في البلد، كما تجلى ذلك في عديد من الأصوات المناهضة لهذه التعديلات حتى من خارج السياقات السياسية القائمة.

- أن النظام الذي يقترحها ويعتقد بأهميتها نظام مغادر لن يسير تناقضاتها ولن يتحمل تبعتها، إنما يترك لنا بذور انشقاق جديدة أكثر خطورة بما ستعمل عليه من توسيع هوة الخلافات السياسية .

- أن هذا النظام لا يملك شرعية قوية لمثل هذه التغييرات التي لا تخدم المرحلة حاليا على الأقل، فهي ليست جزءا من مطالب سياسية ولا يوجد من هو ملتزم بالدفاع عنها في المستقبل كجزء من برنامجه السياسي، كما أن أي شيء يصدر من هذا النظام مرفوض بسبب حجم التناقض معه، والنظام هوبالفعل  من يتبنى هذه التعديلات دون أي تحضير أوإشراك فعلي للطبقة السياسية التي ترفضه، وهو من يبذل كافة الإغراءات بما فيها تقسيم القطع الأرضية والضغوط الحزبية من أجل تمريرها كنجاح خاص به، بل لا يكاد يوجد من يتحمس لها في حقيقة أمره  غير الشخص الذي تخدمه الذي هو شخص عزيز الذي يريد أن يضعها في دستور البلد كجزء من ميراث جيد وأمجاد  شخصية له، وليس عملا وطنيا ومن أجل الوطن  في الشكل والزمان المناسبين.

ربما كان، بل بالتأكيد كان سيكون أمرا جيدا لو كان في ظرف يختلف، فهذه الدرجة مهمة من الشجاعة  لمعالجة قضايا البلد، لكن لمصلحة البلد بالدرجة الأولى وقد اعترف المختار ولد داداه نفسه بالخطأ وحاول نهاية السبعينيات تغيير النشيد. كما لا ينبغي أن يضع البعض فيتو دائما على المراجعات، لكن أيضا هذه ليست قضايا لترميم  الشخصية  وتزوير الأمجاد الشخصية، فهي قضايا يجب أن تخضع للتوافق أو الهدوء  والتعقل، لكن كل ذلك بمنطق المصلحة العليا التي يذعن لها ويقر بها الجميع، فلابد يوما ما من جردة الحساب وتصحيح المسارات والأخطاء، لكن في ضوء نظام وطني  قادم من رحم الشفافية وعبر قنوات ديمقراطية، عكسا لهذا النظام وهذا التوقيت اللذين يتبعهما التشنج والتناقض والتعارض وغياب الشرعية الكافية. الوقت  ليس مناسبا لمثل هذه التعديلات التي تدفع لإصطفافات شديدة التناقض ستقود لتقسيم البلد وكأنما هي نفخ  من جديد على نار قديمة فيكون كل تغيير غير نهائي ولا طائل من وراءه ليلعب برلماننا المجيد دور الوزغ لا غير.إننا نلاحظ اليوم تراجع الشعوب عن قرارات لم تؤخذ بالإجماع حتى بعد الكثير من الزمن، لكن بالطبع هناك فرق بأن تكون هذه القرارات تقوي الفوارق والأزمة وخطوط الإنكسار وبين أن تكون جزء من خلاف سياسي بين أطراف في اللعبة ولا ينسحب إلى الجوهر: إلى الإستقرار . ولا يخفى على أحد تراجع حجم الحماس للمساس بالدستور في هذا الوقت بالذات الذي يخيم عليه الخلاف ويطبعه التعارض والتناقض والتمايز. إن هذه التعديلات تستهدف مجلس الشيوخ الذي هو هيئة زائدة في حقيقة الأمر، وقد ظهر أنها غير مفيدة عندما صوتت على قانون النوع المناهض للدين ( ويوشك أن يسمى "قانون القطع الأرضية"). لكن وعلى الرغم من ذلك لم يكن الشطب على مجلس الشيوخ مطلبا عند أحد ولا معضلة سياسية، ومع أن أحدا لن يبكي عليه إلا أن المبررات ليست  دامغة ولا واقعية خاصة عندما يتم اقتراح هيئة بديلة عنه تأتي عبر الانتخاب المباشر وفي كل الدوائر، أي إثقال كاهل الدولة والناخب بعملية انتخابية جديدة لتكون حصيلة الإصلاح أربع عمليات انتخابية عامة بدل ثلاثة مع ميزانيات ورواتب كبيرة أضحت ضرورية في محاولة لضمان الفاعلية في مثل هذه المهمات، مع أن تجربة المجالس الجهوية ضيقة ولَم تملك شعبية كبيرة في العالم، وتجاوزا لكل ذلك لم نشاهد عنصر الفائدة في الإنتقال من مجلس الشيوخ إلى المجالس الجهوية عبر الكلفة السياسية الكبيرة ولي ذراع الإنسجام الوطني  خاصة أننا ما زلنا بحاجة ماسة للتدريب على نظامنا الحالي حتي يشب عن الطوق قبل الإنتقال بسرعة نحو توسعته وتشبيعه بلا مركزية غير مفهومة تزيد معضلات نظامنا الحالي الكسيح، فالخلاف اليوم مع الإدارة الإقليمية يعيق  تجربة اللامركزية الأولى في العالم والبسيطة. فكم هو حجم فشل البلديات في البلد؟. ثم اننا بحاجة ماسة اليوم إلى معرفة طبيعة المشكلة المطروحة التي سيسويها  تغيير النشيد والعلم في هذه الأزمة التي يعبر البلد منذ تسع سنوات، فمن المهم الإعتراف بدور المقاومة وبتضمين النشيد فقرات تتضمن شحنة تربط المواطن بالأمجاد وبالوطن، لكن هذا يتطلب الإنسجام وليس الشحن العاطفي والبحث عن محو الآخر، كما يتطلب من الناحية الفنية البحتة إعادة بناء النشيد أو عزفه كنشيد غنائي وليس موسيقى صامتة، ثالثا ماذا سنفعل بالجزء الكبير من السياسيين الذين يفسرون هذا التعديل بأنه شعوبي وتنكر "للآباء "المؤسسين، وبالتالي هو عمل يستهدف حقبة، وجهة أو لسحب البساط من مراحل بعينها ادعت الإصلاح أو المراجعة، أو ضد فاعلين وأحزاب لها رمزيتها وأهميتها في البلد. كل شيء يشي بمظاهر الاستفزاز والتحدي أي مظاهر التأزيم والإنقسام والتشرذم. إن هذا العمل -والحالة على ما تقدم ذكره- لا يمكن القدوم عليه، إلا في ضوء توافق أو قيادة وطنية ذات كاريزما وشرعية قوية. إن دخول البرلمان في معادلة لخلاف بهذه الدرجة إنما يختار صفا في التأجيج ضد صف، ولا يمكنه بحال من الأحوال أن يعبر عن الدور الوطني وعن المسؤولية الملقاة على عاتقه من خلال التصديق على أتون انشقاق  وتخالف القلوب في وطن تنهش الانقسامات والنوازع روحه، وتتقاسمه النعرات والتخلف. 

أيها النواب الأفاضل، لا يوردكم رئيسكم مورد الخطيئة رغم طيبته، ورغم أنه جاء من دون أن يعرف وسيذهب قبل أن يفهم، إلا أنه مجبر على أن يسدد الدين، ولذلك قال في خطابه، قبل أن يقلب لسانه في فمه مرات وذلك شأن الكيسيين، ان هذه التعديلات ستعمق الديمقراطية. هذا ما قاله له عزيز وما قاله لكم جميعا وما قاله بعد ذلك للصحافة، لكن الرأي العام ينتظر قولكم أنتم، فأنتم تنظرون إلى وضع البلد وإلى حجم الخلاف والتشرذم وإلى تقدير الفائدة أو الضرر في ما يمكن أن نجلب من هذه التعديلات.

أيها النواب الأفاضل، أذكركم بأن الرجل الذي يدفعكم لهذه التعديلات هو من قال قبل أمس في مقابلته مع "افرانس ٢٤" أن السبب الذي منعه من الترشح لمأمورية ثالثة كونها "ليست في مصلحته الشخصية"، أي أن مصلحة البلد ليست ذات أولوية عنده.

أيها النواب الأفاضل، مرة أخرى وأخيرة؛

الكرة في مرماكم، والقرار بيدكم، فخذوا كل وقتكم، وفككوا كل المقترحات، وادرسوها، ولا تصوتوا على اقتراحات معلبة ولو لمرة واحدة. دعونا نرى بَصْمتكم وتصويبكم للأمور، فالبلد بحاجة إلى وطنيين أقحاح، إن لم يكونوا في السلطة، نجدهم في البرلمان، وذلك أضعف الإيمان..  والله ولي التوفيق.

محمد محمود ولد بكار 

27. فبراير 2017 - 10:37

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا