أخيراً اتضح بشكل لا لبس فيه أن موريتانيا مقدمة على فصول من الصراع المسلح مع التيارات الجهادية المقاتلة والتي تتخذ من تخوم الصحراء الموريتانية الشاسعة ملاذاً آمناً للتدريب والانطلاق نحو وجهتها التي بات واضحاً أن من أهم أهدافها في هذه المرحلة إيقاع ضربات بالوجود الأجنبي الغربي في موريتانيا، ذلك
ما تشير إليه العمليات النوعية التي استهدفت قتل الأميركي كريستوف لانغيز في 23 يونيو 2009، وكذا علمية التفجير التي استهدفت السفارة الفرنسية 8 أغسطس 2009.
لم تكن موريتانيا من الدول المرشحة لانفجار صراع من هذا القبيل غير أن العديد من العوامل التي اتبعتها الدولة الموريتانية والأنظمة المتعاقبة قادت في المحصلة النهائية إلى خلق تربة ومناخ مشبع بالعوامل المساعدة على نمو هذه التنظيمات، فكيف حدثت تحولات العنف، وهل تملك الدولة الموريتانية رؤية استراتجية قادرة على منازلة العنف العدمي الأعمى.
قصور بنيوي يضعف المواجهة
إن القصور الرئيسي في المواجهة الحالية يطال بالأساس الجهاز الأمني المرشح لقيادة التصدي لمعالجة الظاهرة الإرهابية، ويعتبر الجهاز الأمني الموريتاني من الأجهزة التي نشأت وتطورت في منتصف السبعينيات على وقع الصراع العقائدي والأيديولوجي للحركات السياسية ذات المطالب المدنية مركزاً على محاربة الظواهر السياسية المعارضة في السبعينيات، وقد أبان عن عجز كبير وانعدام قابلية للاحتراف خلال فترة حرب الصحراء 1974-1978والتي شكلت أول تحدٍ جدي للمؤسسة الجديدة حيث ضُربت المدن الموريتانية في وضح النهار دون أن يُحال دون العدوان من خلال استطلاع ناجح أو اختراق مبكر للجبهة التي نشأت على أراضينا وتسلحت تحت أعيننا.
وفي الثمانينيات انكفأ هذا الجهاز على انقسام جهوي مقيت بين قياداته وارتهن للألاعيب الشخصية للمقربين قبلياً وجهوياً من الرئيس ولد الطائع الذي اتخذه أداة قمع تواجه بالأساس تيارات مدنية تمارس نوعا من هواية تقليد احتجاجات الحركات النقابية والطلابية لتحقيق أهداف مطلبية جزئية محدودة، وهو إلى ذلك برأي العديدين يفتقر للاحتراف وتعددية الاهتمامات الأمنية المطلوبة في أي جهاز للأمن القومي يواجه تحديات مثل تلك التي تفرضها طبيعة الجغرافيا وتعددية الأعراق، حيث تكون الاهتمامات المنوطة بهذا النوع من المؤسسات تواجه صعوبات مضاعفة. وقد حاول نظام الرئيس ولد الطائع تعويض القصور البنيوي في الدولة وأجهزتها المختلفة من خلال إقامة تحالف أمني قوي مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وعلى نفس النهج سارت السياسة الأمنية التي قادها الجنرالات بعد سقوطه حتى في فترة الربيع الديمقراطي الممتد من (3 أغسطس 2005 وحتى 6 أغسطس 2008) حيث أربك الانقلاب وقائده السياسة الأمنية الأميركية تجاه موريتانيا، والتي ربما وجدت مع الرئيس ولد الشيخ عبدالله وحلفائه اليساريين أملاً كبيراً بتطوير العلاقات لمستوى التحالف الاستراتيجي حيث جرى حديث في الإعلام الأميركي عن دخول الجنود الأميركيين بدون تأشيرة إلى موريتانيا، وقبل انقلاب 2008 زارت بعثات عسكرية أميركية ولاية آدرار وقامت بتعبئة استمارات عن وضعية السكان المحليين في مساعٍ واضحة لإجراء مسوح ميدانية عن الوضع السكاني والبشري وتأثيراته الأمنية.
ومن خلال الأداءات التي واجهت بها الدولة الموريتانية وأجهزتها الأمنية ظاهرة العنف العدمية خلال السنوات الثلاث الماضية، يتضح أن موريتانيا جمهوريةُ موزٍ بالنسبة لهذا النوع من التنظيمات الذي لا يهتم إلا بإلحاق الخسائر من خلال ضربات نوعية قوية في الخواصر الرخوة للدولة الموريتانية ذات الأراضي الصحراوية الشاسعة والمدن المفتوحة على الصحراء والتي لا تتوفر على إمكانات بشرية أو مادية لضبط إيقاع حركتها، وجميع النجاحات التي تحققت بالقبض على الأشخاص المشتبه بارتكابهم لهذه الأعمال، إنما تمت بجهود أميركية وفرنسية، وكان المشهد مريعا عندما لعلع رصاص المواجهة 8 يونيو 2008 في حي «تفرغ زينة» الأرقى شمال العاصمة نواكشوط مبدداً سكينة المكان ومخلفاً قتلى وجرحى من قوات الأمن ليتمخض الحصار الطويل الذي تم بحضور خبراء فرنسيين عن نجاح الخلية السلفية في الانسحاب دون أن يتم القبض على عناصرها، وتفيد العديد من المصادر المؤكدة أن النجاح الذي تحقق من خلال القبض على قتلة الأميركي كريستوف لانغيز تمت من خلال جهود متابعة أمنية بشرية وتقنية بذلها الأميركيون، وإن نفذتها في الحلقة الأخيرة قوة أمنية وطنية، ولكن أيضا بطريقة تفتقر للاحتراف.
عجز في التشخيص وإصرار على مواجهة عمياء
نظراً للفشل الذريع الذي يعيشه الأمن الموريتاني بنيةً وأداءً منذ عدة عقود فقد تورط خلال العقدين الأخيرين في العمل على خلق الظاهرة العنفية واستيرادها من خلال إجرائه عملية قيصرية تستهدف ظهورها بغرض التحكم في الظاهرة السياسية الإسلامية من جهة، وخلطا لأوراق الحالة السياسية ولاستدرار العطف الصهيوني والأميركي تحديداً من جهة أخرى، وفي هذا السياق تم تسليم المواطن محمدو ولد صلاحي للمخابرات الأميركية والذي لا يزال قابعا بمعتقل غوانتنامو سيئ الصيت، ولولا وجود التدافع القبلي الموظف في الصراع السياسي لكان العديدون الآن من قادة الظاهرة السياسية الإسلامية قابعين في السجون الأميركية والموريتانية تحت طائلة الاتهام بالإرهاب، لضلوع صانع القرار السياسي وقيادة الأجهزة الأمنية في المتاجرة بالإرهاب.
ونظراً لغياب رؤية استراتجية للأمن القومي في موريتانيا فإن القيادة الأمنية ستظل تتخبط في ضبابية الإجراءات المربكة للقيادة السياسية وتدخلاتها، وما تمليه من تصورات مهما كانت حكيمة وعاقلة، فستظل دون فوائد العمل المؤسسي المستند لرؤية واضحة، تأخذ بعين الاعتبار الخبرات والتجارب التي توصل إليها من خبروا الظاهرة منذ عدة عقود وتوصلوا لقناعات عديدة بشأنها، غير أن تجاهل القيادة وصانعي القرار لتجارب من سبقوهم سيدفع إلى مزيد من التخبط، كان من الممكن تجاوزه لو كان صناع القرار معتادين على الاستماع لصوت العقل واستقراء التجارب، ودراسة الظواهر للخروج بحلول عقلانية لظاهرة عنفيّة عمياء تتخبط هنا وهناك، فتهلك الحرث والنسل وتواجه بردة فعل «عنف الدولة» الأعمى، ولكنه على سوئه يتسربل برداء الشرعية والقانون، ويحتكر الحقيقة القانونية والشرعية للعلاج، فيقع المجتمع ودولته بين فكي كماشة العنف، عنف الجماعات وعنف الدولة، حتى كأن الدولة الوطنية الحالية في العالم الإسلامي هي علة وجود العنف وهو مبرر بقائها.
إن الدولة والمجتمع في موريتانيا بحاجة إلى تجنب مواجهة هوجاء لا تبقي ولا تذر، وسيكون لها ضحايا كثر من خلال استقراء تجارب الآخرين وقيادة تصدٍ ناجح، يعتمد كافة المحاور والعوامل التي قد تساعد على استيعاب الظاهرة، وتحويل مسارها من جهة، وتفادي مخاطر تداعياتها على الوضع الهش في أبعادها القومية الإثنية والأمنية السياسية.