للمرة الثالثة أقراُ سرديَّة الدكتور محـمدُّ ول أحظانَ التي عنوانها "هجرة الظلال.. رواية تفاعلية ثلاثية" ، و لا أظن أني فهمتها ، و مع ذلك أكتب ملاحظة لن تكون أكاديمية قط ، و أبعد من أن تكون على قدر الرواية ، و قطعا لن تكون كقراءة ذلك القارئ المخضرم الذي سيفهما و يستمتع بفك رموزها و إحالاتها المفتوحة ، حسبها أن تكون مرآة لقراءة قارئ لم يجد نفسه تماما بين القراء الذين أشركهم محمدُّ في روايته الرائعة ، ليعذرني الدكتور و أهل الاختصاص على الجراءة على هذا العمل الفذ شكلا و مضمونا .
"في ذلك الكوخ العتيق القابع في أحشاء الكَبَّة ، و الحال أن آلة تيدنيت عتيقة تنشرُ عذوبتها و ترمي بالأزمنة بعيدا و راء ظهرها ، تبدأُ "الحبَّالية" فجأة من ذلك القطار البشري الهائل اللاهث وراء ظلاله بعد أيام من هجرة ظلال أهل الحفرة ، تتقدمه تانيت اتمروذْ ، ذلك القطار المتشكل من نسوةٌ دفعتهن الأيام إلى أن يصرن رجالا للمدينة السابحة في سراب أنوثة سحاح ذابت رجولتها الغاربة في أتون المجهول ، إنها مدينة الحفرة تلفظ ساكنتها بعد تلك الفعلة الشنيعة ، لقد هاجرت الظلال فهاجر خلفها الرجال ، فتبعتهم النسوة لاهثات باتجاه سراب الحياة في "أوديْ اكلاب" .
ثم يتخلصُ الكاتب من ذلك الزمن السحيق الضارب في الأسطورة إلى الماضي القريب ، بحديثه عن أحد أبطال الرواية ، هو محمد المعلوم الذي يقف مفكرا في جده الأربعين آمكرار و هو من أهل الحفرة ( صراحة تخلصٌ أعجبني ، و أخاله أفضل جسرٍ زمني في الرواية ) ، يفحص محمد المعلوم التلال شبرا شبرا يتأمل الأرض القاحلة و الحريق البني الذي يملأُ الأفق و يحلق بعيدا بنظراته الحوامة في الأرجاء الفسيحة ، متملصا من تلك التفاصيل المائتة ، ثم ينقلنا الكاتب من ذلك المشهد الغامق إلى أيام صِغر محمد المعلوم يوم كان امعيليم و أمه تغالي في التحذير و الخوف من سقوط الأسنان ( فهمت الأمر على أنه تحضير لعقدة لا مركزية – إن صح الوصف – في الرواية ) ، و يصف الكاتب وصفا مروعا مدهشا تفاصيل ذلك القحط العارم ـ ثم فجأة ينقلنا الروائيُّ ( الراوي في السردية ) إلى هنالك حيث يقبع عنكبوت بشريٌّ هائل يدعى ساعيد وسط "غابة الصمغ" و مناوراته الغريبة و موازينه الأغرب تماما كموازين المستعمر في تجليه الأكبر ، فهمت منه إشارةً إلى أول احتكاٍ لأهل هذه الأرض بالمستعمرين الأوربين الذين جاءوا بحثا عن الصمغ ، و هم من اكتشفوا هذه الأرض و مهدوا لاستعمارها .
من ثم ينقل لنا الكاتب عبر يوميات محمد المعلوم صورا من أيام المستعمر ، و حتى أيام حزب الشعب ، و من ثم يردنا الكاتب في "بياريق السراب" من هواجس محمد المعلوم عن نجيبته "الزغمة" إلى ما هو أبعد من عهد أهل الحفرة ، فَعَبر سرتاح الحكيم راوي كولانه الذي حدثه أونتار العظيم عن قصة البقرة "تَشِّـيء" معبودة "ارطان" و البحيرة العظمى و بحر السماء و سلسلة الجبال ، يصف لنا حياة ألئك الوثنين في ذلك الزمن السحيق ( - أنت لم تولد إلا بالأمس .. هذا قبل أن يولد جد فرعون ) ، و بعد استفاضة في الحديث عنهم و عبادتهم و حضارتهم قبل أن يغلطوا تلك الغلطة المدوية و يذبحوا عجلا و عجلة و فتى و فتاة على صخرة"تشيء" ، فتنفر من ذلك نفورا عظيما و تصيح صيحة تفصل بين الماء و اللبن ، عندها يجفف طوفان الرمل بحيرتها العظيمة ، فتهاجرت ظلال أهل مملكة آغريجيت و كانت أول ظلال تهاجر ، ( و إلى الآن ما زالت الظلال تهاجر و لا تترك خلفها إلا بيارق السراب ) و من ثم يرجع بنا إلى خلجات نفس محمد المعلوم عن الزغمة و هو على حافة الجنون ( جذب البقر ) جراء هذا القحط الذي لم يرحم الشجر و لا البقر و لا البشر ( البقر قبل البشر!! ) ، و يبدُو أنه ليس وحده فصاحبه المغداد ( المقداد ) يزول عقله تماما بسبب البقر ، و يعود إلى خيمته و ليس عليه من الثياب إلا ما ولدته به أمه و قد صار أدرد جراء تلك المأساة الفظيعة .
و يشردُ بنا في مستهل جزء "كَبَّة الله" بين يد الزمان و استراحته قبل أن يزيح الستار عن حظيرة "الكيذوب" و "الحراقين" الذين جعلوه يصب جام غضبه على أهل هذا الزمان ، ثم يتراوح بين الزمنين الأخيرين في الرواية الماضي القريب و أيام المستعمر و أيام الناس في ذلك السهل المدعوك سهل الكبة ، يجلد الكاتب ظاهرة المستعمر و يجلد جلدا أشد ساكنةَ تلك البركة الهائلة من الأكواخ الصدئة المحدَّبة ، القمئة المتغضنة ، حيث استشرى الحتّ المريع لمروءات الرجال حتى طفح كلفا على جلودهم ، و حتى تسربت إلى أفئدتهم عدوى الصدأ ، ثم يربطهم بالرواية من خلال التأكيد على أنهم هم أيضا قد هاجرت ظلالهم مثل أهل آغريجيت و أهل الحفرة ، ثم يجيب عن السبب في هجرة الظلال قائلا : هذا أمرٌ معروف في هذه الأرض .. قوم سكبوا اللبن على الرمل و حولهم من يحتاجه فتحولت عنهم الظلال و قرية قامت فيها فتاةٌ برمي لقمة من الثريد على جدارٍ فتحولت عنهم الظلال ، ما ذا أقول لك .. تهاجر الظلال عندما يجري ما تراه في هذا الركام البشري المذهول ، يا كبة الله لا تبكي .
و من الكبة و محيطها الأكبر نواكشوط و دخول محمد المعلوم لها ينقلنا الكاتب إلى مدينة "أراش" المعلقة العجيبة "ملتقى المعارج" ، و قد تخلص إليها باقتدار عبر ذلك الرجل الصالح الطامح للوصول إلى معارج الوصول ، ثم من الواضح أنه في الجزء الأخير من السردية و من خـلال ليل الصحراء الطويل و حديث "أمـاسين" و "إبرا" بدأ يكشف مصائر أحداث الرواية و يحل العالقَ من أحـداث في الجزء الأول و الثاني ، بدءً بمصير نساء الحفرة اللواتي لجأن إلى أوديْ كلابْ ، و كيف خلَّصهم ذلك الفارس "أماسين أنيَّان تاسْ" صاحب البطولات المشهودة ، لكنه أيضا بدأَ في فتح إشكالات أخرى و بدأ يحـدثنا عن "طوفان الرمل" الذي مـرّ على هذه البلاد فلم َيبق على ظهرها مع الرئي "منراس" إلا "تنهنان" و أبناؤها الثلاثة و بنات أختها الثلاث و جاريتها و خادمها ، لتكون "حواء الصغرى" ، و منها تتكون كل القبائل من شرق اليلاد و غربها و جنوبها ، و يستطرد إلى "أمجذان" لعلاقته الوطيدة بالظلال ، و من ثم إلى "آمنير" و "دمناري" ، ثم يخلص إلى أمر أهل المدائن الأربع "تفتل" و "كولانه" و "تامكونه" و "تفْرِلّه" و صراعاتهم و أنهم استوجبوا مـا يؤدي إلى هجرة ظلالهم ، و تبلغ الأمور ذروتها عند دخول أبطال الرواية الأصليين أنفسهم إلى كوخ الكبَّة العتيق مسرح رواية الرواية ، و إجابات محمد المعلوم و الراوي دون مواربة عن الأسئلة العالقة في السردية ثم تنتهي بذلك المشهد الدرامي و الجملتان الموحيات : "للظل على هذه الأرض حكاية لا تنتهي إلا لتبدأ" ، و "أرواحٌ متنكرة تهجر أجسادها على عجل .."
قد يختلف القراء و النقاد فيما إذا كانت هجرة الظلال رواية أم لا ، إلا أنه سيكون محل إجماع كونُ فكرتها إبداعية و ذكية و ربما لم يسبق إليها ، و أنَّ العنوان كان معبرا بحق عن المضمون ، ثم إن لغة الرواية كانت جزلة و قوية و شاعرية في الوقت ذاته و كان الوصف فيها مدهشا و رائعا حقا ، لكن طول الرواية و تشعب مواضيعها يحتاج إلى قارئ ذي نفس طويل ، و قد يجد القارئ غير الماهر صعوبة بالغة في عبور بعض الجسور الزمنية في الرواية ، مما قد ينشأ عنه تشويش في فهم المسار القصصي ، و يمنعه من الاستمتاع بالمغزى العام للرواية ، ثم إنه كان لافتا المعجمُ التاريخي الأسطوري من أسماء و آلات و أشياء و أحداث مـا سمعنا بها في آبائنا الآخرين ، و قد استطاع الكاتب أن يكتب بمعجم جميع شخصيات الرواية من سجع "هـاش" إلى تأوهات محمد المعلوم إلى لغة الفارس "أمـاسين" .
أدهشني في الرواية بالإضافة إلى لغتها الجزلة و كَـمِّ المعلومات الهــائل الذي حُشد فيها ، مواكبةُ الكاتب لما يعرض للقارئ من استشكالات في المسار القصصي ، لكنَّ مـا أزعجني حقَّا هو أن الكاتب صوَّر لنا الناقد بصورة كـاريكاتيرية مضحكة ، ربما تجعل أي ناقد يفكر ألف مرة قبل الكتابة عن هذه الحبالية ، رغم أنه أنصفه في بعض الأحيان .
و مع ذلك فثمة أمـورٌ و استطرادات في الرواية لا يحق لي أن أقول إنها حشو ، فقط سأقول إني لم أفهمها كما لم أفهم سـر إغفاءة الراوي الطويلة التي استغلها الكاتب و قال فيها مـا يُرجح أن الراوي كان سيقوله .
هذه الرواية لم تكتب للعامة إطـلاقا بل كتبت للخاصة بل و خـاصة الخاصة ، إنها كتبت للأدباء المهتمين بالتاريخ و المؤرخين الذين لهم باعٌ في الأدب ، و كتبت كذلك للباحثين في علم الاجتماع ، إنها عملي بحثي فذ ، و نحتٌ جبار في التاريخ البعيد ، و استنطاقٌ عجيب لدِمن و أطلال هذه الأرض .
لكأن تلال هذه الأرض اختارت محمدُّ ول أحظان لتبوح له بأسرارها الغابرة في ذلك الزمن السحيق ، و أخبار تلك الحضارات التي تعاقبت على أديم هذه البلاد ، و خاصة على أطراف مدينة "وادان" و حياة الناس و المجتمع في فترات متفاوتة من الزمن .
إنها باختصار تأريخ بالأدب ، و أدبٌ في ثياب التاريخ ، و صورة للمجتمع قديما و حديثا ، إنها روايةٌ غنية جدا بالدلالات و مترعة بالعبر ، و فضلا عن كونها أعطت صورة واضحة لمن عاشوا على هذه الأرض قديما ، أعطت كذلك رابطا بين الأمس البعيد و يوم الناس هذا ، يتجلَّى ذلك فضلا عن المكان في أسماء و شخوص لم يؤثر فيها الزمان و ظلت صامدة حتى اليوم ، و هي فوق كل ذلك موعظة تاريخية تفيد للحاضر و المستقبل ، ضروريٌّ أن تقرأها الأجيال لتعرف كيف هاجرت ظلال أسلافها ، لتحذر من هجرة ظلالها ، تقول بلسان الحال : إياكم أن تقترفوا مـا اقترفه أسـلافكم فتهاجر ظلالكم كما هاجرت ظلالهم و تكونوا أثرا بعد عين ، فلا عـاصم من هجرة الظلال حين يكون ما يستوجبها .