السياسة بين مفهومي الفكر والفقه في التاريخ الإسلامي / محمد الحافظ ولد الغابد

محمد الحافظ ولد الغابدعَرف مفهوم السياسة في التاريخ الإسلامي اتساعا كبيرا، لدرجة يمكن معها أن نجزم بأن مصطلح السياسة لم يتمحض للدلالة على الممارسة السياسية بمعنى "فن إدارة الدولة" إلا بعد اتساع حركة الترجمة في العصور الحديثة، ورغم أن العديدين من المهتمين بسلامة وجمال اللغة العربية يتهمون حركة الترجمة بتشويه 

لغتهم، غير أن ذلك لا ينفي أنها كانت لها بعض الجوانب الإيجابية على اللغة العربية ذاتها من جهة أخرى.
وإذا ما قمنا بإلقاء نظرة على استخدام المفكرين العرب عبر التاريخ لمصطلح "السياسة" فإننا سنجد أن الكثير منهم كان يعبر عنه بمصطلح آخر اختفى تماما من المجال التداولي العربي المعاصر، وذلك المصطلح هو مصطلح "الإيالة"، ومن الطريف أن الفيلسوف العربي المسلم ابن سينا على سبيل المثال عنون إحدى رسائله في التربية بـ "سياسة الصبيان"، ونجد عنوانا آخر شبيها بالأول في الاستعمال: "الروض الآسي في الطب السياسي" تأليف إبراهيم باشا حسن، وهو كتاب في علم التشريح والطب الشرعي، وعنون ثالثٌ كتابه في التصوف بـ "سياسة المريد"، والأطرف أن طبيبا بيطريا عنون كتابه بـ "سياسة البقر".
وقد اهتمت طائفتان رئيستيان من نخبة المسلمين تاريخيا بالشأن السياسي، هما: طائفة الأدباء والكتّاب، وأنتجت فكرا سياسيا واسعا تأثر إلى حد كبير بتجارب الفرس والروم في السياسة والحكم. وأما الطائفة الثانية فهي طائفة الفقهاء والقضاة، وجاء إنتاجهم أكثر إخلاصا لروح الشريعة ولكنه اتسم بالكثير من الواقعية والرجعية تجاه التردي الخطير الذي كانت تعرفه الممارسة السياسية، خصوصا في عصور هيمنة المملكة العباسية المتدثرة بعنوان الخلافة الإسلامية وما تلاها من دول وحكومات في كبرى حواضر الإسلام، وربما تكون تلك سمة عامة غالبة على الفقهاء والقضاة إلا الإصلاحيين منهم وقليل ما هم.
الفرق بين الفكر والفقه
من الصعوبة بمكان إعادة تعريف الفكر والفقه في اللغة والاصطلاح في هذه العجالة، رغم ما لذلك من أهمية في توضيح فروق دقيقة بين المصطلحين. ويمكن أن نعتبر أن أهم فرق بين المصطلحين رغم اشتراكهما في العموم والخصوص الوجهي، أن الفكر أعم من الفقه وأشمل، أما الفقه فله نطاقه الخاص ومعاييره الفنية الدقيقة. والفقيه حينما يُعمل عقله إنما ينطلق من قواعد دقيقة لتفسير وفهم النص الموحى كتابا وسنة، أما المفكر فإنه يُعمِل عقله في الواقع وإشكالاته مسترشدا بالنصوص الشرعية باعتبارها مصدرا من عدة مصادر، مستفيدا من كل ما تتيحه الخبرات والفلسفات البشرية في ثقافات الشعوب المختلفة الأديان والحضارات والخلفيات دون انحباس في قوالب وقواعد قوانين فنية محدودة مثل ما يحدث للفقيه الذي يبقى أسير قواعد الاستنباط كما يحددها علم أصول الفقه.
ولاستيضاح هذه الحقيقة يكفي استعراض نماذج من كتابات الآداب السلطانية التي تعبر عن الفكر السياسي الإسلامي وليس الفقه السياسي، لأن كتّابها ليسوا فقهاء بالمفهوم التخصصي الفني، وإن كانت موسوعيتهم العلمية الرصينة تجعلهم أيضا على اطلاع واسع بالفقه وأحكامه. فقد كان عبدالله بن المقفع (109-145هـ) أول من أسس أيديولوجيا الآداب السلطانية حسب تعبير الدكتور محمد عابد الجابري، وقد صنف بن المقفع الذي كان ضليعا في الثقافتين الفارسية والعربية رسالة بعنوان "الأدب الصغير" وخصصها للثقافة السياسية للأمير ورجل الدولة، بينما خصص رسالة أخرى بعنوان "الأدب الكبير" لسياسة الدولة وللأساليب الواجبة في الإدارة والسياسة، أما الرسالة الثالثة فهي بعنوان: "رسالة الصحابة" (يقصد صحابة الأمير) فقد ضمّنها مقترحات سياسية قدمها لأبي جعفر المنصور تتمحور حول كيفية الإدارة العسكرية والأمنية للقوات العباسية الخراسانية، وعبر هذه الرسائل استنبت ابن المقفع لأول مرة في التربة الفكرية الإسلامية مفاهيم الثقافة السياسية عند الفرس بصورة ستترسخ بشكل أوضح في كتابات الأديب الموسوعي عثمان عمر بن بحر الجاحظ (150-255هـ) على سبيل المثال، الذي ألف العديد من الكتب والرسائل في الفكر السياسي من أشهرها كتابه "التاج في أخلاق الملوك" الذي بعث فيه أنماطا مندرسة من الفكر والممارسات السياسية في الإمبراطورية الفارسية التي تأثرت بها إلى حد كبير الدولة العباسية.
وللجاحظ عدة كتب في الفكر السياسي، من أهمها رسالة بعنوان العثمانية ورسالة بعنوان "استحقاق الإمامة" وفي كلا هذين العملين يناقش الجاحظ مسألة الإمامة، وقد ركز في العثمانية على النقاش الكلامي الحجاجي لآراء المذاهب والفرق الإسلامية حول الإمامة مما أثار العديد من الردود السجالية حول الموضوع، وفي الرسالة الأخيرة ناقش بأسلوب منطقي علمي ركز خلاله على بحث مسألة ضرورة السلطة في الاجتماع الإنساني، مستعرضا موقفه من إمامة المفضول وخطر تعدد الأئمة على وحدة الأمة. وله رسالة أخرى بعنوان: "تنبيه الملوك" ناقش فيها مسألة الحيل والتكتيكات السياسية التي تساعد على إدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية والعلاقات السياسية، موضحا القيم الواجب اتباعها في هذا الصدد من وجهة نظره الفكرية والسياسية.
وعلى ذات النهج سار العديد من المؤلفين في الآداب السلطانية، مثل ابن قتيبة الدينوري في كتابه المعنون: "السلطان"، وابن طباطبا صاحب كتاب "الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلامية".. هذا من المؤرخين، ومن الفلاسفة الكندي وأحمد بن نصر الفارابي الذي ألف أربعة كتب تأثرت إلى حد كبير بالمنحى الفلسفي، من أهمها كتابه "آراء أهل المدينة الفاضلة" وغير هؤلاء كثير.
أما كتابات الفقهاء فمن أبرزها كتابا الأحكام السلطانية للماوردي الشافعي والفراء الحنبلي تحت نفس العنوان: "الأحكام السلطانية والولايات الدينية"، يليهما كتاب إمام الحرمين "غياث الأمم عند التياث الظلم" (التياث الظلم: اختلاطها). ومن الكتب التي شكلت في حد ذاتها اتجاها تجديديا كتابا ابن تيمية: "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية" و "الحسبة"، وكتاب تلميذه ابن القيم "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية".
ويوجد اتجاه ثالث غلب عليه الجمع بين طريقة التأليف في الآداب السلطانية وطريقة التأليف في الفقه السياسي، ويأتي في مقدمة من سلك هذا النهج الفقيه المالكي الإصلاحي الإمام أبي بكر الطرطوشي في كتابه المعنون بـ "سراج الملوك"، وكتاب الإمام الحضرمي المرادي "الإشارة في تدبير الإمارة"، وكتاب ابن رضوان "الشهب اللامعة في السياسة النافعة -ويمكن أن نعتبر أن كتابات الغزالي تنتمي لهذا الاتجاه- وكذا كتابا الماوردي: "قوانين الوزارة وسياسة الملك" و "تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملوك".
ويعرّض عبدالرحمن بن خلدون مكتشف علم العمران بجميع من سبقه في نقاش الأفكار السياسية، معتبرا أن كل ذلك الإنتاج لا يتجاوز نصائح وعظية في السياسة الملوكية، غير أن ابن خلدون الحريص على إبراز اكتشافه لقوانين علم العمران (= علم الاجتماع) منفردا دون الاعتماد على من عاصره أو من سبقه ممن تصدى لهذا المجال، لا يخفي إعجابه بكتاب الطرطوشي "سراج الملوك" الذي حوّم حول الغرض العلمي –حسب التعبير الخلدوني- الذي غاصت المقدمة في أعماقه، متوِّجة اكتمال مخاض الفكر السياسي الإسلامي بميلاد علم جديد هو علم العمران المنبثق من استقراء تاريخي عميق لتحولات الدول والمجتمعات الإسلامية عبر العصور.
وتبقى الآراء السياسية للطرطوشي والغزالي وابن تيمية وابن خلدون بحاجة ماسة لقراءتها من جديد باعتبارها تعبر عن لحظات فارقة في تطور الفكر السياسي السني في التاريخ الإسلامي.

 

12. مارس 2010 - 0:00

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا