لا زلنا ننتظر من المناوئين للتعديلات الدستورية الإقلاع عن الدوران حول عبارة " العبث بالدستور " والدخول فيها وتفكيكها وتوضيح ما الذي فيها مما يشكل عبثا بالدستور، ويبدو أن انتظارنا سيطول إذ مرت عدة أشهر على إعلان هذه التعديلات والموقف منها هو هو، عبث بالدستور!
والتعديلات كما هو معروف منبثقة عن حوار قاطعه جزء من المعارضة بحجة أنه أقيم خصيصا للتعرض لمواد محصنة في الدستور، وفتح المجال أمام تغيير دستوري يفتح المجال أمام السماح بمأمورية ثالثة للرئيس، جرى الحوار وأبقى المتحاورون على المواد المحصنة في الدستور دون تغيير، وأختتم الرئيس الحوار بالتأكيد على أن لا نية لديه في تغيير المواد الدستورية المحصنة بما في ذلك السماح له بمأمورية ثالثة.
سقطت الحجة إذن لمقاطعة الحوار بسقوط الحجج التي كانت قائمة عليها، لكن لم تسقط الحاجة لمبررات لمناهضة هذه التعديلات ولأنها، أي التعديلات، لم تمس المواد المحصنة أولا، وكانت في مجملها تمثل مطالب سبق وأن طرحتها المعارضة وطرحها فاعلون سياسيون واجتماعيون وقانونيون ثانيا، أصبحت مجابهتها غير مقنعة وتفتقد للسند الشعبي والسياسي الذي تتطلبه تلك المجابهة.
أولم نسمع من أحزاب في المعارضة مرارا وتكرارا الحديث عن عدم ضرورة غرفتين برلمانيتين في بلد كبلدنا، وأهمية اكتفائه بغرفة واحدة؟ أولم ينادي سياسيون وفاعلون من قبل، وأشار شركاء دوليون وماليون بأهمية توسيع المشاركة الشعبية والاهتمام بالتنمية الجهوية عبر مقاربة اللامركزية، وقدموا أمثلة لنجاح هذه المقاربة في عدة بلدان مشابهة؟ أولم يظل إصلاح وتحسين القانون الانتخابي مطلبا للجميع؟ أولم تكن الشكاوي من عدم كفاءة اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات والثغرات القانونية بهيكلتها قائمة والمطالب بإعادة صياغتها من جديد مطروحة؟ أولم يتحدث الكثيرون من ساسة وكتاب وفاعلين عن عدم الحاجة لتعدد المجالس الدستورية تشتيتا للموارد وتداخلا للصلاحيات والمهام، وطالبوا بدمجها في هيئة دستورية واحدة؟ فيم وأين خرجت التعديلات الدستورية الحالية إذن عن هذه المطالب بالتحسينات في الحياة السياسية، وكيف نطالب بها لسنوات وعندما يتم إقرارها وتقديمها تصبح ليست مستعجلة أو أولوية؟!
إن عدم خروج هذه التعديلات عن الأمور التي ظلت تمثل مطالب للكثيرين بما في ذلك المعارضة نفسها، وعدم وجود ما يمكن تسويقه على أنه تغيير جذري أو انعطافي في الحياة السياسية والاجتماعية للبلد، مما يهدد وحدته أو سيادته أو استقراره أو حوزته الترابية، أو يضيق من الحريات الفردية والجماعية، أو يقلص فرص عيش المواطنين أو يسلبهم فرص عيش أو حياة كانوا يتمتعون بها مما يجعلهم يرفضون هذه التعديلات، هو السبب في خوف المناوئين لها من الخوض فيها والإبقاء بدلا من ذلك على الجمود على، والدوران حول عبارة واحدة مبهمة هي " العبث بالدستور"! في حين أن العبث بالدستور هو التعرض لمواده المحصنة لا مواده التي ما تركت مفتوحة إلا لتعديلها كلما ظهرت الحاجة لذلك، وبما يسمح بتحسين أو تطوير مجال سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو حقوقي.. أو ليس في القرآن العظيم ( أعظم الدساتير ) آيات محكمات يتفق كل المفسرين في تفسيرها، وآيات أخرى يختلف المفسرون في تفسيرها، فهل نعتبر تلك التفاسير المختلفة عبثا بالقرآن؟!
بعد ملل الناس من هذه العبارة، وعدم وجود ما يثبتها في هذه التعديلات، تم اللجوء لعبارة أخرى شقيقة لها من ناحية عدم الوجاهة وهي أن التعديلات غير مستعجلة ولا تمثل أولوية، وأن الأولوية هي الصعوبات المعيشية للمواطنين وارتفاع الأسعار ومشكل البطالة والصحة والتعليم.. ومن المعروف أن الحوار هو في المقام الأول حوار سياسي لوضع إصلاحات سياسية، صحيح أن البعض طالب بأن يكون أيضا حوارا اجتماعيا يتم التطرق فيه للقضايا الاجتماعية وتم ذلك وقدم الكثير من المقترحات والتوصيات في هذا المجال، لكنها تبقى مقترحات وتوصيات ليست الحكومة ملزمة بالأخذ بها أو تطبيقها لأنها ليست مواد دستورية، فليس من شأن الدساتير عبر العالم رسم سياسات الأسعار والظروف المعيشية للمواطنين وقضايا الصحة والبطالة والتعليم، إذ ما هو الدستور؟
الدستور هو القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة ( بسيطة مكونة من كيان واحد أم مركبة من اتحاد فدرالي ) ونظام الحكم ( ملكي أم جمهوري ) وشكل الحكومة ( رئاسية أم برلمانية ) وينظم السلطات العامة في الدولة من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات التي تربط السلطات وحدود كل سلطة، والواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات ويضع الضمانات لها اتجاه السلطة.
أما ظروف عيش المواطنين وقضايا الصحة والتعليم والبطالة، فتلك سياسيات وخطط حكومية ترى كل حكومة الطريقة التي تواجهها بها، تنجح في ذلك كليا أو أجزئيا أو تفشل فيه كليا أو جزئيا كذلك، ونجاح الحكومة أو فشلها إزاء تلك القضايا لا يترتب عليه لجوء للدستور لا حذفا منه ولا إ إضافة إليه لأنه، ببساطة، غير معني بأمور متغيرة تتحكم فيها الأولويات والإمكانيات والحكامة وطبيعة الموارد والتقلبات الاقتصادية محليا ودوليا، مثلها مثل علاقات البلد مع بقية بلدان العالم مثلا، حيث لا يمكننا أن نسطر في الدستور أن البلد يرتبط بعلاقات حسنة أو جيدة مع هذا البلد، وعلاقات دون ذلك مع ذاك.. لأن هذه أمور متغيرة تتحكم فيها، هي الأخرى، طبيعة العلاقات الدولية والأحداث الجارية وثوابت البلد ومبادئه ومصالحه ومواقفه من الأحداث المتغيرة..
وكما هو معلوم فإن العالم يرزح اليوم تحت كساد وتباطؤ نمو غير مسبوق وما ينتج عن ذلك من بطالة وانعكاسات اقتصادية واجتماعية، فهل سمعنا أو رأينا سياسيا أو خبيرا قانونيا أو اقتصاديا أوصى بالتصدي لهذا الكساد الاقتصادي بواسطة تعديل الدساتير؟ أبدا! ما نراه هو اتخاذ التدابير الاقتصادية المألوفة في مثل هذه الحالات من تقشف أو خفض إنفاق أو زيادة معدلات الضرائب أو رفع نسب الفائدة إلى غير ذلك من السياسات والتدابير..
ما أردنا التوصل إليه وما اكتشفناه هو أن المعارضة الرافضة لهذه التعديلات لا تمتلك ما تسوق أو تسوغ به هذا الرفض، ولذلك لم نسمع لا في الندوات ولا في المقابلات ولا في " آخر الدواء " من بيانات المناشدة للنواب ووعظهم وترهيبهم بما ينتظرهم من " عار " الدنيا و " عقاب " الآخرة إن هم صوتوا على هذه التعديلات، نرجو الله أن لا يكون في صحفنا وصحفهم مما نُسأل عنه ويُسألون سوى تأييد هذه التعديلات التي لا تعارض فيها مع نص قرآني ولا حديث مهما كان ضعيفا أو موضوعا ( لا تحل حراما ولا تحرم حلالا كما قال أحد الفقهاء ) وقد تبين الحلال والحرام قبل أربعة عشر قرنا، فلم نسمع في هذه الندوات والمقابلات وبيانات مناشدة النواب إذن سوى عبارتين هما العبث بالدستور دون الإشارة لمكامن ذلك العبث، ثم تغيير العلم والنشيد، ومع تعذر تبرير أو تسويق تهمة العبث بالدستور لكون التعديلات لم تمس المواد المحصنة التي كان البعض يخشى تغييرها والتي عندها سيكون الموضوع عبثا حقيقيا بالدستور، ولكون المواد المقدمة للتعديل من الدستور، كما سبق وأن بينا، كلها كانت مطالب لقطاعات واسعة من المجتمع وفاعليه، وفي نفس الوقت مطالب للمعارضة كإصلاحات ظلت تطرحها، ولا يمكن إجراء تلك الإصلاحات دون المساس بالدستور لأنها وببساطة تتعلق بمواد كان مبوبا عليها في الدستور.. لذلك سيكون التركيز أكثر على تعديل العلم والنشيد كمادة أكثر " دسما " باعتبار الأمر يتعلق برمزين " مقدسين " أسست موريتانيا عليهما وسيتضعضع أساسها وينهار بتغييرهما!
وللعلم فالنشيد الوطني ليس مادة دستورية يتطلب تغييره تغييرا دستوريا، وإنما يحدده مرسوم يمكن أن يصدر هذا المساء دون انتظار المؤتمر البرلماني أو الاستفتاء.. أما علمنا وبعد أن عشنا نصف قرن من عمر دولتنا دون أن نهمتم بدلالات شكله وألوانه، أو يقودنا مجرد الفضول للبحث في تلك الدلالات، فقد قادتنا صدفة الحديث عن تغييره إلى أنه مجرد علم كان مستخدما ببلد مجاور، بنفس الشكل والألوان ما عدا هلال بنفس اللون أضفناه إليه واكتفينا به تمييزا لعلمنا عن ذلك العلم! لم يعدل ذلك البلد علمه الذي أقتبسنا منه علمنا، بل ألغاه واختار علما آخر مستخدما فيه اللون الأحمر الذي يتطير منه بعضنا.. فلماذا كل هذا الطنين لمجرد أننا طرحنا مراجعة هذا الرمز وطبعه بلمسة وطنية تخصنا؟! صحيح، قد يكون بموريتانيا عبر تاريخها من لم يكن يلقي بالا لهذه الأمور أو يعتبرها غير ذات بال، لكن جاء من يعتبرها غير ذلك ويقدر رمزيتها وضرورة انتمائها لقيم البلد التي من أعظمها تضحيات أبنائه بفدائه والدفاع عنه ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وتناغم ذلك مع أصوات كانت تطرح الموضوع وتتوق إليه قبله، ومسيرة الأمم كما هو معلوم مراحل ومحطات.
ولذلك فرفض المعارضة لهذه التعديلات، وحملتها المناوئة لها بما فيها العلم والنشيد لا تخرج عن مماحكتها لسياسات النظام الذي لم نجدها، ولا مرة واحدة، تعترف له بحسنة صغيرة كانت أو متناهية الصغر! ومن يريد فهم ذلك الرفض فليتركه في هذا الإطار، ولا يخامرني أدنى شك في أن المطلعين سواء كانوا نوابا أو مراقبين عاديين يفهمون ذلك ويضعونه في إطاره، ليبقى غير المطلعين الذين سيكونون هم المستهدفون من طرف المعارضة في مجابهة التعديلات، وبقدرما ينشط ويضطلع شركاء الحوار بمسؤولياتهم في شرح والدفاع عن ما اتفقوا عليه في أوساط غير المطلعين، فلن يكون لحملة مجابهة هذه التعديلات أثرا يذكر، خصوصا وأن حجج ومسوغات المعارضة في هذه المجابهة ضعيفة وآخذة في التخلخل، وأسرارها في ذلك كشفتها " غفلة " أحد قادتها هو موسي افال قبل أيام على قناة " المرابطون "، حيث سأله مقدم البرنامج عن ما لذي يرونه في هذه التعديلات مما يشكل عبثا بالدستور؟ فتحرك في الكرسي عدة مرات وقال إنهم في المنتدى يعارضون نقطة تغيير العلم بالذات، أما بقية النقاط فهي بالنسبة لهم قابلة للنقاش.. وذلك يعني، بلغة المعارضة، أنه لا اعتراض عليها أو لا يحظى الاعتراض عليها بإجماع، وعندما يتعذر الإجماع في المعارضة، فمن باب أولى تعذر ذلك الإجماع بينها وبقية الفاعلين السياسيين في الساحة، وبالتالي عدم موضوعية تعطيل الحياة والإصلاحات وتشبيك السواعد في انتظار إجماع قد لا ينعقد. ثم إلى أين يتوجه من ينشد الإجماع عادة، إلى الشارع أم إلى قاعات الحوار والنقاش؟!