كشفت الأسابيع الأخيرة من نشاط الدبلوماسية الموريتانية عن قلق لديها على أن يختطف منها جيرانها الأفارقة بوصلة الفعل الدبلوماسي وترتيباته الجارية (لقاء دول الساحل والصحراء في الجزائر الأسبوع الماضي واللقاء المرتقب في مالي والذي تتحفظ عليه نواكشوط) بشأن قضايا مكافحة "الإرهاب" وما تعلق به
من ملفات كان آخرها المفاوضات الجارية مع تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، حول الرهائن الغربيين المحتجزين في المثلث الصحراوي الواقع على الحدود المالية- الجزائرية- الموريتانية، حيث تضغط كل من فرنسا وإسبانيا وإيطاليا في اتجاه إنجاز صفقات لتحرير مواطنيها من قبضة المجموعات الإسلامية المنضوية تحت لواء القاعدة في المغرب الإسلامي، بينما لا تتفهم نواكشوط والجزائر سرعة التحول في الموقف الأوروبي المتخاذل تجاه القاعدة والنابع ربما من ضغوط الانتخابات المحلية من جهة ومن أهمية الأشخاص المختطفين هذه المرة من جهة أخرى، وقد استجابت جمهورية مالي للضغوط الفرنسية لإنقاذ المواطن الفرنسي المهدد ونجحت في الإفراج عنه عبر مقايضة اعتبرتها موريتانيا والجزائر غير مشروعة، ولا تنسجم مع توجهات دول الإقليم والسياق العالمي "الأميركي الأوروبي" في الأساس للتعامل مع يسمى بالإرهاب، حيث تلاشت هذه المرة كل التصريحات النارية القادمة من الضفة الأخرى للمتوسط، والتي تحذر بشكل مبالغ فيه من خطر الإرهاب الإسلامي على المنطقة وبصورة ربما قدمت في رأي العديد من المراقبين في الكثير من الأحيان خدمات "إشهارية مقصودة أو غير مقصودة للقاعدة في المغرب الإسلامي"، لأن من نتائج هذا الخطاب الناري للأوروبيين تجاه "الإرهاب" -والذي بات يختزل بكل بساطة الحرب على "الإسلام"- تفهّم شعوب المنطقة لشرعية الحرب التي تشنها القاعدة على خصومها الأوروبيين والأميركيين ووكلائهم من حكام وأنظمة المنطقة، وهذا ما يفسر الإقبال الواسع على تنظيم القاعدة من شرائح كبيرة من الشباب في هذه البلدان، وهو ما يكشف من ناحية أخرى تحول الجماعة السلفية للدعوة والقتال من تنظيم صغير في الجزائر إلى منظمة قوية تنشط في ثلاث دول وتقيم كياناً شبه دولة (إمارة إسلامية) في أعماق المثلث الصحراوي.
موريتانيا: الحرب لا المفاوضات.. تكتيك أم استراتيجية
تبدو موريتانيا مصرة على التمسك برواسب الخطاب السياسي والإعلامي الأوروبي والأميركي كخط ثابت في سياساتها تجاه معالجة مشكلة العنف ومخلفات صراع الآخرين على أراضيها، وهي من الدول التي تضررت وإن بشكل محدود من هجمات القاعدة، بالمقارنة مع مالي والجزائر إلا أنه لا يزال بإمكانها أن تصنع معادلة جديدة تستثنيها من استهداف الهجمات التي تنفذها التنظيمات الدائرة في فلك القاعدة عموما والقاعدة في المغرب الإسلامي خصوصا، غير أن الخط الذي تؤكده بيانات وزارة الخارجية الموريتانية حاليا، والذي يسند من ناحية أخرى أداء القوات المسلحة الموريتانية على الأرض والذي يصر على إحداث تغيرات هيكلية في إدارة أرض المعركة من ناحية واستراتجيتها من ناحية أخرى.
فقد بدأت موريتانيا في استحداث قرى ونقاط عسكرية ثابتة في عمق أراضيها الواقعة على تخوم المثلث الصحراوي، وبدأ الجيش الموريتاني يشن هجمات تستهدف التحركات العسكرية والأمنية وحتى التجارية التي تعتمد عليها القاعدة في المنطقة، وحقق نجاحات مقدرة أحكمت الخناق على تحركات مجموعات القاعدة العسكرية في المجال الصحراوي المتاخم للعديد من مدن الولايات والمدن، غير أن التنظيم لا يزال يمتلك شبكات استخبارية ولوجستية داخل الأراضي الموريتانية، ويرى بعض المحللين المتابعين لتطورات الحراك الأمني والعسكري في المنطقة أن عمليات اختطاف الرعايا الإسبان إنما جاءت ردا على الحراك العسكري الموريتاني النشط، والذي سد ثغرات وفراغات كان يملؤها التنظيم ونشاطاته وهو بعمليات الاخطاف تلك يوجه ضربة لإحداث صدمة، وخلق إحباط مدمر لدى القيادات العسكرية الموريتانية من جهة وإرباك القيادة الأمنية والسياسية التي لم تخف استعدادها للعب دور الوكيل للحرب على الإرهاب، كما جاء في تصريحات الجنرال ولد عبدالعزيز على أعتاب قصر الإليزيه أواخر العام 2009 قبل عملية الاختطاف بأقل من شهرين.
غير أنه على القيادة الموريتانية أن تقرأ بشكل جيد تحولات الحرب العالمية على الإرهاب، والتي بدأ الأوروبيون يتخلون عنها مع تصاعد وتيرة هزيمة القوى الدولية على الجبهة الأفغانية، ولسعي أوروبا لإعطاء أولوية أكبر لمعالجة مخلفات الأزمة الاقتصادية العالمية، والتي يبدو أنها تتدحرج ككرة الثلج، مخلفة انهيارات ومنذرة بضحايا جدد، وهذا التحول الطارئ على الموقف الأوروبي فهمته بصورة أسرع دول مثل مالي التي باتت تتجه لمهادنة القاعدة بعدما وجدت نفسها كل مرة تخسر في حرب استنزاف بلا نهاية، لا تربح منها إلا زيارات الخبراء الغربيين المعتمدين على النصائح والتقنية التي تغري بالنزال في غرف الفنادق الخبراءَ وكبارَ القادة غير الميدانيين، غير أنها تحيق بها الهزيمة كلما نزلت لتضاريس وأتربة الصحراء ومناخاتها القاسية.
وهو وضع ينطبق عليه قول الشاعر: وإذا ما خلا الجبانُ بأرضٍ.. طَـلَبَ الطعنَ وحدَهُ والنزالا.
فمنذ أكثر من عقد من الزمان والقوات المالية تأتي بالخبرات وتسترشد بالعسكريين الفرنسيين والأميركيين لمواجهة حركات التمرد الطوارقية والمجموعات الإسلامية لكن الجيش المالي لم يصل إلى طائل وظلت خسائره العسكرية مدوية وقائمة الضحايا في ازدياد، ولم تغن عنه تقنيات الغرب ولا تمويلات الحرب من الخسائر البشرية والمادية شيئا، ونفس الوضعية عاشتها الجزائر التي تدفع المنطقة كل المنطقة شظايا انفجار إرهاب الدولة الذي قادة لحرب أهلية مدمرة لا تزال تشكل أهم منبع يغذي المجموعات المتطرفة في شبه المنطقة.
مالي وبوركينا فاسو والتقاط الدور القيادي
يبدو أن الدبلوماسية في مالي وبوركينا فاسو كانت أسرع في فهم التوجه الغربي وهم يقدون الآن تسريع وتيرة التفاوض مع "الإرهابيين الخطرين"!! بعدما اكتووا بنار الإصرار الأوروبي والأميركي على إشعال حروب لا طائل من ورائها لفترات طويلة واتجهوا الآن لإعطاء دور أكبر للمفاوضات ودفع التنظيمات المتهمة بالإرهاب لعقد هدنة مسالمة عنوانها الحوار والتفاوض والموادعة بعيدا عن الانخراط في حرب استنزاف وهمية تخوضها بلدان هشة لحساب أطراف أخرى، وهذا الدور الذي يبدو أن وكلاء فرنسا في الإقليم لم يعودوا يقتنعون به يبدو أن موريتانيا مصرة على إنهائه في اصطفاف غير ذكي مع الجزائر التي صنعت استراتيجيتها الأمنية القاعدة في المغرب الإسلامي في محاولة لإحداث تحول في أجندة المنظمات الإسلامية من خلال إغرائها بالاهتمام بدور جهادي عالمي بدل التخندق في نقطة إقامة دولة إسلامية في الجزائر والعديد من المهتمين بالملف الأمني الجزائري يدركون استراتيجية الجزائر منذ العام 2000 في محاولة حصر الوجع في مناطقه الحالية في جنوب البلاد وتشجيعه على التوسع لدول الإقليم المجاورة للتخلص من شروره.
وإذا لم تكن موريتانيا من خلال تصعيدها الحالي تريد رفع السقف التفاوضي والتوصل لحل دائم ينهي الهجمات على جيشها، ويوقف اختطاف المعاهدين والمستأمنين على أراضيها فإنها تكون قد دخلت على خط مواجهة لا تتحكم في إنهائه وهو ما ستكون له مضاعفات وآلام غير محدودة بل بعض المراقبين لا يستبعد أن تكون ثمة إرادة لتوريط النظام الحالي في مستنقع من هذا النوع للتخلص من شخص الرئيس الموريتاني الحالي الجنرال ولد عبدالعزيز الذي تسجل بعض القوى الدولية والإقليمية تحفظات على استمراره في السلطة.
ولا يستبعد أن تكون موريتانيا التي أنجزت حواراً تراجع بموجبه العشرات من الشباب عن ممارسة العنف على الأراضي الموريتانية تريد أن تحكم سيطرتها على المجال الترابي الحيوي، الذي يجب أن يُحترم من طرف هذه التنظيمات في حال توقيع هدنة معها وللحصول على مكاسب عسكرية وأمنية ترد الاعتبار للجيش والأمن الموريتاني، وذلك ما تم جزئيا من خلال الهجوم الذي نفذته القوات المسلحة الوطنية داخل الأراضي المالية، محققة لأول مرة إنجازاً يعوّض بعض الشيء الخسائر المادية والمعنوية التي تراكمت خلال السنوات الماضية.
وتسعى نواكشوط وهي المعنيّة بشكل رئيسي بملف الإسبان المختطفين على أراضيها وتطلب القاعدة مقايضتهم بأعضائها المعتقلين في سجن نواكشوط المركزي أن تنجز بشكل منفرد هذه الصفقة في إطار مقنع يندرج تحت سقف التراجعات والمراجعات الفكرية من قبل هذه الجماعات، وهو ما سيشكل ضربة قوية على المستوى الفكري للتيارات الراديكالية في القاعدة لتقويض انتشارها في الإطار المحلي من جهة كما سيمكن موريتانيا من استثمار هذا الإنجاز سياسيا في أفق مفاوضتها مع المانحين منتصف العام الحالي 2010 خلال الأشهر القادمة بينما تضغط إسبانيا للإفراج عن رعايا على وقع الانتخابات المحلية، وهو ما نجحت فيه جزئيا بركينا فاسوا التي دخلت على الخط، وهو ما أغضب نواكشوط التي توالت صيحاتها المنددة بتنافس بوركينا فاسو ومالي على قيادة التسويات مع القاعدة استجابة لجنوح أوروبا لموادعة القاعدة في الوقت الراهن.
ويبقى السؤال المطروح هل ستنجح موريتانيا في قيادة أداء فاعل لتوجيه بوصلة التحولات الحالية من الحرب على الإرهاب، بما يخدم الاستقرار ويوفر الأمن اللازم للتأسيس انطلاقة تنموية فاعلة أم أنها ستنزلق في حرب وهمية لا طائل من ورائها وربما تقود لتحولات سلطوية وسياسية في الأفق القريب؟